رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فؤاد قاعود.. حكيم مصرى فى ثوب شاعر عامية

اختلف مع عبدالناصر وسجن فى عصر السادات

برع فى مباشرة الزجل ورمزية القصيدة دون خلط بينهما

قدمه صلاح جاهين عام 1960 وتأخر ديوانه الأول 17 عامًا

كان عامل سويتش فى إذاعة إسكندرية قبل أن يصبح صحفيًا

فى عام ١٩٦٠ قدم الشاعر الكبير صلاح جاهين فى بابه "شاعر جديد يعجبنى" بمجلة صباح الخير الشاعر الشاب فؤاد قاعود، الذى كان قد تعرف عليه صدفة قبل عامين تقريبًا فى مكالمة عابرة لإذاعة الإسكندرية، حيث كان فؤاد هو عامل السويتش. وقد اختتم تقديمه له بقوله: "فؤاد قاعود فى الخامسة والعشرين.. والقصائد الثلاث المنشورة هنا تمثل بعض النواحى من شعره، الذى أرجو أن أقرأه قريبًا مجموعًا فى ديوان". لكن الغريب أن ديوان فؤاد قاعود الأول "الاعتراض" لم يصدر إلا عام ١٩٧٧ عن دار العالم الجديد، على الرغم من أن فؤاد قد صار قبل ذلك بسنوات شاعرًا يشار له بالبنان، حيث ألحقه صلاح جاهين بالعمل فى وظيفة "شاعر" بمجلة صباح الخير منذ عام ١٩٦٣ أثناء فترة تجنيده، وكان الشيخ إمام قد لحن له حتى هذا التاريخ العديد من الأغانى الشهيرة مثل: العزيق وأحزان القرد والشجرة بتخضر والمارونيت وعلى الربابة ومرمر زمانى وحبيبتى بنت الأرض والبياع التى كتبها عام ١٩٦٤، مصورًا فيها معاناة أمثاله من الباحثين عن لقمة العيش، حيث يقول:

لبان دكر مجوهرات بكش

شخليلة فلايات

تلات مشاط كبريت بقرش

وباغة للقميص

ونوجا ياللى فى مترو الذوات

بناتكو سنيورات، وبنتى مقشفة

والعيشة ف القصور خلافها ف الكفور

يا كمسرى يا كمسرى

يا نص عسكرى

مسيح مع الغنى

وعالغلابة مفترى

سيبنى أبيع لتغضب السما

وواد رضيع مالوش لبن يضيع

فى آخر النهار أعد غلتى

وأسد معدتى بنص لقمة لجل تشبع العيال

وبكرة إيه ما أعرفش بكرة إيه

تلات مشاط دستة مواس يا بيه

شخليلة فلايات لبان دكر

مجوهرات بكش!

حيث تخرج علامة التعجب فى نهاية القصيدة وصف "بكش" من إشارته المحدودة لمجوهرات البائع الزائفة، إلى زيف الواقع السياسى المعيش وقتها، الذى كان يدعى الاشتراكية والعدالة الاجتماعية ولا يحققهما وفقًا لرؤية الشاعر، الذى يتميز فى قصائده دائمًا بمعالجة السياسى فى سياق إبداعى غير مباشر.

ولا شك أن آراء قاعود ومواقفه السياسية كانت سببًا مباشرًا فى التعتيم الإعلامى عليه، وفى عدم نشر دواوينه فى مؤسسات الدولة، خاصة أنه قد تم اعتقاله بين عامى ١٩٧٢ و١٩٧٣. وقد صدرت باقى دواوينه التالية أيضًا عن دور نشر خاصة: "الصدمة" مدبولى ١٩٧٧، "المواويل" كراسات الفكر المعاصر ١٩٧٨، "الخروج من الظل" مدبولى ١٩٩٧، "قلق الروح" المحروسة ١٩٩٧. كما صدرت له مجموعة كبيرة من القصائد فى مجلد واحد تحت عنوان غير حقيقى هو "الأعمال الشعرية الكاملة" عن دار الأحمدى للنشر عام ٢٠٠٢.

أما أعماله الكاملة بالفعل فقد صدرت فى ستة أجزاء عن الهيئة العامة لقصور الثقافة عام ٢٠٠٨، وذلك بعد وفاته فى ١٨ يناير ٢٠٠٦. والجزء الأول من هذه الأعمال يضم الدواوين الخمسة المنشورة سابقًا، مع تغيير فى عنوان الديوان الأخير "قلق الروح"، الذى تحول إلى "من قلق الروح" بعد حذف بعض القصائد من هذا الجزء بمعرفة الناشر، على الرغم من نشرها كلها سابقًا بمجلة صباح الخير!

وقد اكتشفت هذا أثناء محاولتى حصر مجموعة القصائد التى تعتمد فى موضوعها وبنيتها على الموسيقى الغربية التى يستمع إليها فؤاد طوال يومه تقريبًا أثناء انهماكه فى القراءة بالإضافة إلى الموسيقى العربية التراثية، التى تصلح لأن تكون موضوعًا لدراسة مستقلة، مثل: «للموسيقى لودفيج بيتهوفن»، و"ألحان للشجن"، و"رباعية للحجرة"، و"الرقص فوق أعشاب البانجو"، و"فالس التفتيش على حرس الشرف"، ولا يمكن لى أن أنسى القصيدة الأخيرة، التى لم أجدها على سبيل المثال فى الأعمال الكاملة، لأن خالى العزيز فؤاد قاعود كان قد علمنى على كلماتها إيقاع الفالس، وهو يردد لأحفظ:

علماء السيكاترى

بوم.. بام بام

بوم.. بام بام

بيقولوا إن السلطة

بوم.. بام بام

بوم.. بام بام

بتهدى الأعصاب

بوم.. بام بام

بوم.. بام بام

على عكس ما بيردد

بوم.. بام بام

بوم.. بام بام

أصحاب الألقاب

أما الجزء الثانى من الأعمال الكاملة الذى يحمل عنوان: "قصائد لم تنشر فى دواوين"، فيضم مجموعة من النصوص الشعرية التى تمت كتابتها بداية من فترة الستينيات حتى عام ٢٠٠٥، لكن الشاعر لم يخترها للنشر فى دواوينه، وتتنوع هذه النصوص بين الزجل والشعر.

أما الجزء الثالث الذى يحمل عنوان "قصائد لم تنشر ٢"، فيضم مجموعة من التجارب الشعرية النوعية التى كتبها الشاعر ونشرها فى مجلة صباح الخير، لكنه لم ينشرها فى دواوين. بداية من تجربة "بلاد الله لخلق الله" مع توأم روحه ورفيق دربه الرسام حجازى، التى قاما بها عام ١٩٦٣، وقد قال فى تقديمها تحت عنوان "شاعر ورسام":

شاعر ورسام

عاجز ومسكين

سافروا على الأقدام

والجميع راكبين

أكلهم بتاو

شربهم تخميس

ضحكهم هئاو

لفظهم تأليس

فى خمس أيام

ضيعوا القرشين

وانتهاءً بتجربة المقامات التى بدأت بـ"مقامات أبى الشمقمق" عام ١٩٨٤، مرورًا بمقامات "بوح الكراريس.. عن رحلة باريس" عام ١٩٨٦، وما بعدهما من مقامات.

وتجدر الإشارة فى هذا السياق إلى أن العلاقة الفنية بين فؤاد قاعود وحجازى الرسام هى علاقة تكاملية ممتدة عبر التاريخ، فقد كان حجازى يقدم كل أسبوع مع القصيدة الشعرية لفؤاد قاعود قصيدة تشكيلية موازية، وما كان يجب إعادة طبع قصائد فؤاد دون هذه اللوحات، ولم يلتفت لهذا الأمر سوى دار المحروسة التى طبعت مجموعة من هذه اللوحات مع قصائد ديوانه الأخير "قلق الروح".

أما باقى الأجزاء وهى على التوالى: جوعان بن هفتان، فرقع لوز، نكد الدولة سخطان؛ فقد جمعت أزجال فؤاد التى صاغها على لسان شخصياته الثلاث المخترعة بمجلته الفكاهية "صباح الفل"، وأضاف إلى الجزء الأخير "الفرازة" وهى باب شهرى قدم فيه فؤاد أصواتًا شعرية جديدة ومتميزة، أسوة بما فعله جاهين معه. وبهذا تكون هذه الطبعة من الأعمال الكاملة لم تغفل من إبداعات قاعود سوى جمع قصصه التى كتبها للأطفال بالعامية والفصحى بداية من مجلة "كروان" الأسبوعية التى صدر عددها الأول يوم الخميس ٩ يناير ١٩٦٤ عن دار التحرير، وكان يرأس تحريرها نعمان عاشور.

كان فؤاد المولود بالإسكندرية فى ٥ أبريل عام ١٩٣٦ هو أصغر إخوته، وقد ولد بعد وفاة والده فى ظروف اقتصادية صعبة، فعمل فى الورش والحرف المختلفة معتمدًا على نفسه فى تدبير موارد العيش وتعلم القراءة والكتابة، حتى إن لقاءه الأول بصلاح جاهين قد تأخر ما يقرب من عامين، حين سمحت ظروفه المادية بالقدوم للقاهرة لسبب آخر حتمى وهو أداء الخدمة العسكرية.

وربما لهذه الأسباب صار فؤاد قاعود معتدًا بنفسه للغاية، ومترفعًا أكثر مما ينبغى، ومثقفًا موسوعيًا أكثر مما تتخيل، حتى إنه على الرغم من حبه البالغ لطه حسين؛ فإن طبيعة شخصيته كانت أقرب إلى العقاد فى عصاميته وصرامته أيضًا.

وقد قال جاهين عن ثقافته المبكرة فى تقديمه له: "تأثر بالمتنبى فكثر فى شعره الفخر والتعالى، وتأثر بالمهجريين فنحا نحوهم فى الشعر الفكرى الذى يناقش الفلسفةـ فلسفته كانت على قدها فى ذلك الوقت، وتأثر ببيرم فأجاد النظم وسيطر على الكلمات وطوعها للأغراض الشعرية.. وتأثر بعصره فأصبح واحدًا من الذين يعملون على أن تصبح العامية المصرية لغة أدبية تستطيع أن تحمل فى أحشائها كل الصور والرؤى الشعرية العالمية".

ولعل نص قصيدة "التمثال" التى نشرها له جاهين عند تقديمه، يوضح كيف استطاع قاعود وهو ما زال فى صدر الشباب، أن يكتب قصيدة عامية بمفهوم الشعرية الحديثة، وبعيدة كل البعد عن حدود الزجل، حيث يقول فيها:

رمسيس يا أبو التقديس

يا أبو الجحافل تجرف المتاريس

يا ابن الجماجم بيضاوية مشعوذة

يا ابن القرابين والمدايح والإله التيس

أصبحت فى باب الحديد تمثال

حواليك عيال

نايمين على نجيلك بلا غطيان

ما رددوا اسمك ولا خاطبوك

ولا قروا نصرك على الجدران

لاكنهم صاحبوك

صاحبوك عشان تحتك مكان فاضى

بيقضوا فوق منه سواد الليل

رمسيس يا أبو المتاعيس

يا أبو حوض صغير بالقلم مرسوم

مليان خروم

يا خسارة الميه بلا فايدة

حوضك يا رمسيس عمره ما ح يفيض

طول ما الخروم نافدة على المراحيض

رمسيس يا أبو التعظيم والتبجيل والإكبار

ما انكرش إنك كنت يوم مغوار

ولا إن شكلى حته من شكلك

ولا قرب أوصافك لأوصافى

لكنى مليت قرى أسفارك

وقرفت من عندك وإصرارك

ووقفتك وسط الميدان حافى

تتحدى نور الشمس

ولم يكن فؤاد قاعود يحب كتابة الأغانى عمومًا خاصة العاطفية، وكثيرًا ما سخر منها، وتحفظ على كتابة شعراء كبار لها، لأنه كان يرى أن هذا التوجه قد أبعدهم عن كتابة الشعر الحقيقى.

وبخلاف ما لحنه له إمام من أغان سياسية، لا نجد له سوى أغنيتين فقط، نشرتا شعرًا فى مجلة صباح الخير أولًا، وأعجب بهما سيد مكاوى فأخذهما بعد ذلك ولحنهما للإذاعة، وهما: أغنية "عمال ولدنا والجدود عمال" التى تذاع سنويًا فى عيد العمال. وأغنية "اختال فوق عيدانك وأكبر يا زرع الشراقى" التى تذاع سنويًا فى عيد الفلاح.

وعلى الرغم من علاقتى القوية بفؤاد؛ فلم أكتشف إلا بعد موته بسنوات عديدة أنه قد كتب الأغنية العاطفية الأولى لعبداللطيف التلبانى، خريج كلية الحقوق جامعة الإسكندرية، التى تعرف على فؤاد فى مقاهيها، وقد قال فيها:

ما فيش يا قلبى فى الدنيا قلب

قضى حياته من غير ما حب

ومدام ربيعك

قرب يبيعك

قل لى يا قلبى مستنى إيه؟

قل لى؟

الوردة عشقت فى الروضة نسمة

حلوة بتخطر

وانت اللى فاضل مالكش قسمة

وازاى حتصبر

اعشق يا قلبى ده العمر مرة

والدنيا من غير محبة مرة

اشمعنى وحدك انت اللى أمرك

حير أطبا

وانت اللى وحدك

تقضى عمرك

من غير محبة

طاوع يا قلبى وكفاية قسوة

الدنيا من غير حبيب ما تسوى

وقد غنى التلبانى هذه الأغنية فى حفل أضواء المدينة عام ١٩٦٠، من ألحان جلال حرب. وقد ذكر جلال معوض يومها أن اسم المؤلف هو أحمد فؤاد فقط دون كلمة قاعود، بينما قدم الفقرة الفنان شكرى سرحان وذكر اسم المطرب الجديد والملحن الكبير فقط، ولم يشر إلى المؤلف. وأعتقد أن موقفًا كهذا كان كفيلًا بأن يبعد قاعود بتكوينه النفسى عن التفكير فى مجال كتابة الأغنية مرة أخرى، وأن يجعله ينسى هذا الموضوع تمامًا كأنه لم يحدث.

أما على مستوى الشعر؛ فإن قاعود يعترض أشد الاعتراض على تسمية "اللغة العامية"، حيث يقول: "لقد آن لنا أن نتخلص من هذا الخطأ الشائع والوهم الباطل، فليس هناك شىء بهذا الاسم، هناك لغة واحدة هى العربية، وليست لهجتنا إلا قراءة مصرية للعربية".

لهذا لم يكن شعر فؤاد قاعود شعرًا بسيطًا فى أفكاره ورؤيته، وقد لاحظ ذلك الناقد إبراهيم فتحى الذى قال فى مقدمة ديوانه "قلق الروح" الذى يحمل على غلافه عنوانًا فرعيًا مصاحبًا هو "قصائد بالعربية المصرية": "بعض أنواع العامية كان أقل انتماء إلى عامة الشعب العربى فى مصر"، ولا أعرف إن كان هذا التوصيف يفيد المدح أم الذم من وجهة نظر الناقد الماركسى، لكنه توصيف صحيح فى جميع الأحوال.

وقد يظهر هذا واضحًا مثلًا فى المقطع التالى من قصيدة قاعود "زهرة الليل"، الذى يقول فيه:

من صنف فعل المسرحية يوجد الإطار

وتصدقه الشواخص المسيرة

حيث يمزج النص بين نظرية الأدب التى يتحدث عنها فى البيت الأول، مقدمًا رؤية بنيوية للعمل الأدبى، تتمثل فى الإشارة إلى أن لكل عمل بنيته الخاصة المستقلة التى تتفق مع ترتيب عناصره وفقًا لرؤية المبدع، لأن البنية ليست شيئًا خارجيًا مقحمًا على النص، أو قالبًا جاهزًا ثابتًا يصب فيه المبدع أفكاره المتنوعة أيًا كانت، فـ"من صنف فعل المسرحية يوجد الإطار".

أما البيت الثانى فتضرب جذوره بعمق- عبر سياق القصيدة- فى مشكلة فلسفية دينية تتعلق بالاختيار والجبر والحرية الإنسانية.

وقد كان قاعود مغرمًا بالفلسفة، حتى إنه لا يجد غضاضة مثلًا فى إعادة صياغة أبيات أبوالعلاء المعرى الفصيحة التى تحمل أفكارًا أعجبته، حيث قال:

زغاريد دى ولا صوات ما دلونى

ونزلت أجرى بهمة وعناية

لقتنى ناسى همه بعتونى

لجل الحانوتى ولا للداية

والأمر لا يتعلق هنا بقصور لدى الشاعر عن إبداع معان جديدة، لكنه يتعلق بإعجابه الشديد بالمعنى الوارد لدى أبى العلاء فى قوله:

غير مجد فى ملتى واعتقادى

نوح باك ولا ترنم شادى

وشبيه صوت النعى إذا قيس

بصوت البشير فى كل نادى

ولرغبة الشاعر فى نقل هذا المعنى فى ثوب فنى جديد إلى عامة القراء، فقد استبدل قاعود الكلمات العامية بمرادفها الفصيح فى بيت أبى العلاء الأول: الصوات بالنواح، والزغاريد بالترنم. ثم حول "صوت النعى" و"صوت البشير" فى البيت الثانى من النص الفصيح إلى شخصيات شعبية حية تعد رمزًا فى الوعى المصرى المعاصر للحزن والفرح: "الحانوتى" و"الداية".

فقد كان قاعود مولعًا بتوظيف التراث الشعرى الفصيح بأشكال مختلفة فى قصائده، وقد يدخل أحيانًا تعديلات جوهرية على النص الفصيح تعكس تطور الرؤية المعاصرة لمفهوم الشعر وطبيعته، حيث يقول مثلًا:

فى مدخل الشتا

تتزاحم الصور على سن القلم

كأنها الطيور

أهش منها اللى أهشه خارج الورق

واللى ارتطم فى القلب يخلق سطور

فبمقارنة الأبيات السابقة مع قول امرئ القيس:

أذود القوافى عنى زيادا

زياد غلام جرىء جرادا

فلما كثرن وأعييننى

تخيرت منهن شتا جيادا

فأعزل مرجانها جانبا

وآخذ من درها المستجادا

سنكتشف أن الإطار العام للصورة الكلية الذى تتضمنه الأبيات العامية هو نفسه الإطار العام للصورة الكلية الذى تتضمنه الأبيات الفصيحة ذاتها، فكل شاعر منهما يفخر بموهبته المتفردة التى تسهل عليه ما يصعب على أقرانه من الشعراء المجايلين له، بغض النظر عن التحويرات الفنية المعاصرة لمفردات الصور، واستبدال "الطيور" و"الهش"، بـ"القوافى" و"الزود".

لكن الأمر الجوهرى فى التحوير الفنى المعاصر يتمثل فى أن اهتمام امرئ القيس الشعرى وصراعه الإبداعى كان يتمثل أولًا فى البحث عن القوافى، أما اهتمام الشاعر المعاصر فؤاد قاعود فيتمثل أولًا فى البحث عن الصور. وأن معيار اختيار القوافى لدى امرئ القيس كان شكليًا، أما معيار اختيار الصور لدى قاعود فيتوقف على مدى استيعابه العاطفى لها. ولا شك فى أن هذا التحوير يعكس الاهتمامات الحقيقية للشعرية العربية الحديثة.

على أن التكوين الثقافى التراثى الفصيح لدى فؤاد قاعود ليس مقصورًا على النصوص الإبداعية فقط، بل يمتد ليضم التراث النقدى والبلاغى أيضًا، حيث يقول مثلًا:

ما شفت أبلغ من شواهد القبور

السر فى سحر البلاغة قوة الإيجاز

والكشف عن عالم بحاله فى تلات كلمات

ذى اتولد .. وعاش .. ومات

فالشاعر يشرح للقارئ سر البلاغة، كما وردت فى كتب القدماء الذى يتمثل فى الإيجاز المكثف غير المخل، مبرهنًا على بلاغة شواهد القبور فى تلخيصها لحيوات امتدت عبر سنوات طويلة فى ثلاث كلمات فقط: "اتولد.. وعاش.. ومات". وقد نجح فؤاد عبر الارتكاز على التراث الفصيح فى تحويل بلاغة القبور الفلسفية المتمثلة فى حتمية انتهاء الحياة إلى بلاغة لغوية أيضًا تتمثل فى قوة الإيجاز عبر شواهدها، فصارت أبلغ مثال لاختصار العمر واختصار الصياغة فى آن.