رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فرج فودة الذى قُتل مظلومًا

بعد ثلاثين عامًا من اغتياله هل انتصر فرج فودة.. أم هُزم؟ هذا هو السؤال الصعب

دلائل انتصاره أن المصريين أطاحوا بحكم الإخوان وأسقطوا كذبتهم.. ودلائل هزيمته أن ثقافة التخلف تضرب بجذورها فى التربة بأعمق مما يتصور أحد 

كان فودة يستخدم لغة علمية راقية فى التعامل مع الإسلاميين بل يطالب لهم بحزب سياسى أيضًا 

كان مقاتل «كوماندوز» يستعين بشجاعته وقدراته الفردية فى قتال جيش منظم وممول له أنصار وجنود فى كل مكان

هل انتصر فرج فودة على مَن قتلوه أم هم من انتصروا عليه؟ هل انتصر لأن ذكراه ما زالت باقية عنوانًا للشجاعة والتضحية.. أم انتصروا هم بتخريب المجتمع وزرع أشجار العنف والتعصب والتخلف وريها بالجهل لمدة ثلاثين عامًا كاملة منذ اغتياله وحتى الآن؟.. هل انتصر فرج فودة يوم قامت ٣٠ يونيو وأسقط المصريون الجماعة، التى لم يفعل شيئًا سوى كشفها والتحذير منها والاشتباك مع قادتها من صلاح أبوإسماعيل إلى مأمون الهضيبى ومحمد عمارة ومحمد الغزالى.. أم أنه هُزم لأن جذور التخلف التى زرعها هؤلاء ما زالت كامنة فى أعماق التربة المصرية تنتظر حفرًا عميقًا ومجهودًا شاقًا وتفجيرًا بالديناميت حتى نتخلص من تلك البذور الشيطانية التى تتمدد فى عقولنا وأرواحنا وطرق تفكيرنا، فتمنعنا من التقدم والسير للأمام؟

حين فكّرت فى عنوان مقالى عن فرج فودة قلت لنفسى إننى سأسميه «فرج فودة.. كوماندوز التنوير»، ومضيت أشرح لنفسى فكرتى فى أن مقاتل «الكوماندوز» أو «الصاعقة» يعتمد على شجاعته الفردية ومهارته فى مواجهة الجيوش النظامية، وعلى قدرته على الاشتباك وإيقاع الخسائر فى صفوف العدو بسلاح خفيف للغاية.. وقد كان هذا هو عين ما يفعله فرج فودة.. المثقف الليبرالى فصيح اللسان.. بليغ العبارة.. المتمكن من أدواته والمستند إلى سلاح المنطق والعقل قبل أى شىء آخر.. وهو يشتبك مع تيار التطرف فى ذروة صعوده فى الثمانينيات، وعقب أن قام هذا التيار باغتيال رئيس الجمهورية وأصبح له ممثلون فى النقابات ومجلس الشعب ووسائل الإعلام والصحف.. حيث كان فرج فودة يشبه مقاتلًا سريع الحركة.. منتبهًا طوال الوقت وجاهزًا للاشتباك.. فهو يرد على مفتى الإرهاب عمر عبدالرحمن بعد أن أصدر شهادته فى قضية اغتيال الرئيس السادات فى كتاب.. قال فيه إن الرجل كافر ومرتد ويستحق القتل.. وهو يشتبك مع زعيم الدعاة الإخوانى صلاح أبوإسماعيل فى معركة تلو الأخرى، فيناله منه رذاذ الشائعات ويتهمه كذبًا بأنه فى كتابه الرائع «قبل السقوط» قد دعا لإباحة الخمر والزنا وهو كذب صريح يدركه من يقرأ الكتاب.. والحقيقة أن الدكتور فرج فودة قد تم اغتياله معنويًا قبل أن يتم اغتياله جسديًا.. واستُهدف بأحقر مجموعة من الشائعات المنظمة.. التى استهدفت سمعته الشخصية وكتاباته وأسرته.. وقد استمر هذا بعد وفاته.. ولعل أولى هذه الشائعات تتعلق بمضمون كتاباته نفسها.. ومَنْ يقرأ هذه الكتابات يدرك أن الرجل كان عفيف اللسان راقى اللغة رغم قوة الأسلوب، وأنه لم يتطرق أبدًا لمناقشة قضايا الفقه والعقيدة وما إلى ذلك من قضايا ينزعج علماء الدين والمتحدثون باسمه إذا ناقشها غيرهم.. لكن السمة الغالبة على خطابه أنه كان يعرض لحوادث من التاريخ السياسى للمسلمين بعد وفاة الرسول.. أبطالها بشر عاديون، وكان يؤكد أنهم لا يمثلون الدين ولكن يمثلون أنفسهم.. وكان هدفه أن يوضح كذب فكرة اليوتوبيا الإسلامية.. حيث كان الإخوان والإرهابيون يبيعون للناس وهمًا عن مثالية الماضى وملائكية من كانوا يعيشون فيه، وطوباوية الدول التى تعاقبت على حكم المسلمين، واطلاق على من توارثوا الحكم فيها لقب «الخلفاء».. وكان الراحل الكبير يستخدم المنطق لإيضاح أن ما كان يصلح فى الماضى لا يصلح للحاضر.. وأن ممارسات مثل الصراع على السلطة والقتل والذبح وقطع الأطراف هى ممارسات يتحمل مسئوليتها من قاموا بها ولا تخص الإسلام فى شىء.. وكان يتصدى لنزعات تطرف ارتفعت منذ السبعينيات تطالب بما سُمى «تقنين الشريعة»، وإصدار قوانين بقطع أطراف المدانين بجرائم جنائية.. وكان يقول إن هذه التطبيقات خاصة بالعصر الذى طُبّقت فيه.. وإن فلسفة العقاب قد اختلفت.. ولعلنا الآن نُجمع جميعًا على هذا.. بفضل جهود وكتابات هذا الرجل الشجاع.. ولعل المفاجأة التى لا يعرفها كثيرون أن هذا الرجل المثالى كان يطالب- مُخطئًا من وجهة نظرى- بإتاحة حزب سياسى لخصومه من دعاة الإسلام السياسى، وكان من وجهة نظره أن هذا سيفقدهم ادعاء القداسة ويتيح إمكانية حسابهم بمعيار الإنجاز، ولعل نبوءته هذه قد تحققت حين تولت الجماعة الإرهابية السلطة فاحترقت بنيرانها، وتأكد الجميع من فشلها خلال شهور قليلة.. وبكل تأكيد فلم تكن خصومة هذا المقاتل النبيل مع الإسلام كدين.. ولكن مع من يستخدمون الإسلام لأهداف سياسية، ومع المتطرفين والإرهابيين الذين بتنا اليوم، وبعد ثلاثين عامًا من مقتله، نتفق جميعًا على خطرهم، وفى مقدمة من يحذر من خطرهم مؤسساتنا الدينية مثل الأزهر ودار الإفتاء وغيرهما.. وهو ما لم يكن أمرًا عاديًا فى الواقع الذى قاتل فرج فودة لتغييره.. فالطرف الرئيسى أمامه فى مناظرة الدولة الدينية وصاحب فتوى إباحة دمه هو وكيل وزارة الأوقاف المصرية محمد الغزالى.. وبيان تكفيره الذى نشرته جريدة «النور» صادر عن ندوة علماء الأزهر برئاسة د. عبدالغفار عزيز، الذى فر للسعودية بعد حادث اغتياله أو قبله بقليل، وفتوى القتل نفسها أصدرها د. محمود مزروعة رئيس قسم العقيدة فى كلية أصول الدين، والذى أسرَّ بها لقاتليه فى لقاء مدبر فى إحدى محطات البنزين.. وقد أجمع كل هؤلاء على أنهم أباحوا دمه لأنه فى مقالاته كان يقول إن الشريعة مطبقة بالفعل، وإنه لا حاجة لتطبيق الحدود التى أسقطها عمر، رضى الله عنه، فى عام الرمادة.. إننى أراجع كتابات هذا المقاتل الشجاع فلا أرى له أعداءً سوى المتشددين والمتطرفين وقادة الإرهاب، وأرى أسلوبه شديد التهذيب والرقى، حتى إنه من فرط مثاليته كان يصف جماعات الإرهاب مثل الجهاد والجماعة الإسلامية بـ«التيار الثورى»، تمييزًا لها عن الإخوان الذين كان يسميهم «التيار التقليدى»، وهو ما يوضح لنا إلى أى مدى كان هذا الرجل عف اللسان وحريصًا على استخدام لغة العلم، ورغم هذا فإنه لم يسلم من شر الإرهابيين ومن لف لفهم. 

وإذا كان لى أن أختلف مع هذا المفكر العملاق اختلاف التلميذ مع الأستاذ، فإننى آخذ عليه تحليله لسبب عودة التطرف للمجتمع المصرى فى السبعينيات.. حيث كان يرجعه لسبب واحد وحيد هو نكسة يونيو التى هزته من الأعماق، واستُشهد فيها شقيقه محيى الدين فودة، ورأى أن العلم هو وسيلتنا للتغلب عليه، وأن ظهور المتطرفين كان نتيجة لها.. وقد أغفل هذا المفكر الكبير وجود صفقة سياسية وإقليمية كبيرة أدت لخروج المتطرفين من جحورهم بقوة الأمر السياسى، ومكنتهم من مراكز التأثير فى المجتمع.. ومولتهم وخلقت لهم أظهرًا وامتدادات فى بعض مؤسسات الدولة المختلفة، وهو ما سعيت لإثباته فى تحقيق تاريخى طويل ضمنته كتاب «دعاة عصر السادات»، وأظن أن قرب العهد بالسبعينيات وغياب المعلومات ومثالية فرج فودة وإعجابه العام بالرئيس السادات كانت من أسباب عدم تركيزه على الصفقة السياسية التى أدت لعودة التطرف منذ بداية السبعينيات.. كان فرج فودة نموذجًا للمثقف العضوى.. المتحرك المشتبك والذى يسعى لتطبيق أفكاره.. رشّح نفسه فى الانتخابات النيابية عام ١٩٨٤ فى حى شبرا، وظل يعتقد أنه لم ينل المساندة اللائقة وأنه تم التزوير ضده.. واستقال من حزب الوفد احتجاجًا على تحالفه مع الإخوان المسلمين وتقدم للجنة الأحزاب بأوراق حزب جديد يحمل اسم «المستقبل» فتم رفضه مرتين، وأسس الجمعية المصرية للتنوير التى نجتمع فيها الآن.. وما زلت أذكر مشاهدتى شبه اليومية له وأنا طالب فى جامعة القاهرة أجلس فى المساء مع زملائى على مقهى فى شارع شمبليون، بينما هو يصطحب صديقه على سالم فى نهايات الليل لكبابجى أبوخالد ذى الطابع الشعبى، الذى كان يمد موائده فى ظلال قصر شمبليون التاريخى البديع، وكأنه يؤكد أن مكانه هو الشارع والمقهى بين الناس لا فى البرج العاجى ولا خلف أسوار المجمعات السكنية الفاخرة وأجنحة الفنادق كما يفعل بعضهم الآن.. لقد شاء القدر أن يموت فرج فودة على يد مجرم أمى لا يقرأ ولا يكتب، وأن يصدر أمر اغتياله الإرهابى صفوت عبدالغنى، قاتل رفعت المحجوب رئيس مجلس الشعب المصرى، وأحد الألغاز الغامضة فى تاريخ الإرهاب حتى الآن.. فتحية لفرج فودة وشجاعته وإقدامه التى نحصد بعض ثمارها الآن، وبعد وفاته بثلاثين عامًا كاملة.