رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رد «الكيد السياسى» ضد مصر

أفكر أننا نعيد إنتاج نفس عيوب التفكير مع كل حادثة جديدة.. أكبر عيوبنا أننا نقرأ الأحداث بحسب هوانا الشخصى وأفكارنا ومصالحنا أحيانًا.. التعسف فى التفسير ولىّ عنق الحقائق وتأويل الأحداث كى توافق قناعات البعض أو مصالحهم هى أبرز عيوبنا كعرب وكمصريين.. أول ما وقعت عينى على خبر يخص لاعب الاسكواش محمد الشوربجى كان على صفحة فضائية عربية شهيرة.. كانت صياغة الخبر لافتة فى انحرافها، وكانت تقول إن اللاعب الفلانى فضّل إنجلترا على مصر!! صياغة «وضيعة» مهنيًا وتُحمّل اللاعب ما لا يحتمل وتضعه فى قفص الاتهام دون مبرر أو داعٍ.. على الجهة الأخرى هناك من هاجم اللاعب واتهمه بعدم الوطنية وعدم الانتماء غضبًا من تصرفه وردًا على مَن حاولوا أن يحملوا قراره بمحاميل سياسية لا وجود لها.. بعضهم اتخذ قرار اللاعب مبررًا لهجائيات طويلة عن البلد والأوضاع.. وتقيأوا فى وجوهنا بقىء الكراهية والسباب والبكاء. دون داعٍ.. لا هؤلاء على حق ولا هؤلاء على حق.. وكلاهما تغيب عنه النظرة الموضوعية.. الانتماء للوطن مثل الإيمان بالله وبأى قيمة، شىء يزرعه الله فى القلب ويحدد مصير الإنسان دون سعى منه.. هناك من يموت من أجل وطنه.. وهناك من يخونه.. وهناك من لا يطيق العيش بعيدًا عنه أيامًا قليلة.. وهناك من يسعى ليهاجر منه.. كل واحد من هؤلاء حر.. ويحصد نتيجة اختياره.. فى الستينيات كان هناك شاعر عامية شهير نسبيًا يدعى نبيه سرحان.. قال له عقله إنه يجب أن يهرب لإسرائيل.. هرب فعلًا وأصبح نسيًا منسيًا لا يذكره أحد، فى حين يضع المصريون أبناء جيله مثل الأبنودى وسيد حجاب فى حبات قلوبهم ويخلدون أسماءهم.. هذا جزاء عادل ونتيجة طبيعية لاختيار كل شخص.. دائمًا هناك قلة تنبهر بالعدو وكثرة تختار الوطن.. فى موضوع لاعب الاسكواش المصرى المسألة تختلف.. هو لعب باسم مصر خمسة عشر عامًا وأحرز عدة بطولات عالم باسمها.. وله شقيق من أبطال مصر والعالم فى نفس اللعبة، وهذه كلها أشياء يجب أن نذكرها له أولًا.. وثانيًا أنا لم أرَ أنه فى شرحه لمبرراته أخطأ فى مصر كوطن أو كشعب أو كقيادة.. ولكنه تحدث عن تعامل خاطئ معه من المسئولين عن اللعبة.. وهذا وارد جدًا.. ويجب أن يكون محل تحقيق من وزارة الشباب والرياضة أو من اللجنة المختصة فى مجلس النواب.. نعم من الوارد أن يكون هناك تعامل خاطئ معه.. فواقعنا ليس ورديًا ولا حالمًا وإلا لما بذلت الدولة كل هذا الجهد من أجل الإصلاح، ولما قامت ثورة يونيو والتى سبقتها ثورة يناير إلا بسبب اضطراب الأمور فى كثير من المجالات.. شخصيًا أرى أن القرار الذى اتخذه اللاعب قرار خاطئ تمامًا، ولكنى لا أرى أنه يرقى إلى درجة الخيانة أو ما إلى ذلك من اتهامات.. إنه يشبه مثلًا قرار هذا اللاعب أو ذاك بترك نادٍ عريق له جماهير عريضة لنادٍ آخر لا جمهور له من أجل النقود أو الظروف المريحة.. هذا اللاعب بعد فترة يدرك أن المادة ليست كل شىء.. وأن حب الناس ثروة، والمجد ثروة، وتقدير الوطن له ثروة، وخلود اسمه بعد وفاته ثروة، وحمل أبنائه وأحفاده لاسمه ثروة.. هى أشياء لا تشترى على حد تعبير أمل دنقل.. وبالتالى أنا أدعو لتعامل مختلف مع هذا اللاعب فى ضوء نظرة أكثر هدوءًا، خاصة أنه بلغ الواحدة والثلاثين وعمره الباقى فى الملاعب لا يزيد على ثلاث سنوات.. إننى أدعو وزير الرياضة لأن يتصرف بأسلوب سياسى «يكيد الأعادى» وأن يوجه دعوة لهذا الشاب المصرى ويقابله، وأن تنظم له وزارة السياحة برنامجًا سياحيًا فى معالم مصر المختلفة، وأن ترسل صور الزيارة لتلك الفضائية بعينها التى قالت إنه «فضّل إنجلترا على مصر»! كنوع من الفجر فى التغطية الصحفية والكيد السياسى الذى ينافس كيد العوالم وبائعات الهوى إن لم يزد.. إن لأى ظاهرة جوانب مركبة ومتعددة ولا يمكن اختصارها فى صراع «الأبيض والأسود» وإما «مع أو ضد».. إن المهاجرين من أى بلد من العالم الثالث من الطبيعى جدًا أن يحققوا نجاحًا أكبر فى بلاد المهجر لأنها قطعت أشواطًا أكبر فى سباق التقدم.. وليس فى هذا ما يعيبنا أو ما يعيب بلادنا.. بل هو شىء يسعدنا ويشكل مصدر دخل وقوة مادية ومعنوية لنا.. لقد سافر مجدى يعقوب لإنجلترا لأنه واجه مضايقات فى مصر.. لكنه تحول إلى هرم رابع لمصر ومصدر قوة وفخر وطاقة حب.. فى نفس الوقت سافر مصرى آخر هو رجل أعمال شهير جدًا فى إنجلترا.. ظل يشعر بالمرارة والألم وعدم الرغبة فى العودة.. هو حر.. سيموت غريبًا فى بلاد غريبة عنه ولن يذكره أحد فى مصر بالخير أو بالشر.. الأمر مختلف تمامًا مع مجدى يعقوب الذى عاد ليعيش على ضفاف النيل ويشفى قلوب أبنائها متطوعًا.. هذا اختيار.. وهذا اختيار.. وكل إنسان يحصد نتيجة اختياره.. السفر للغرب ليس انتقاصًا من قيمة مصر لمن يقدر عليه.. هل أخطأ محمد صلاح مثلًا بالسفر لأوروبا؟! طبعًا لا وألف لا.. لقد سافر ونجح ورفع راية مصر وظل ابنًا بارًا لها.. «الشوربجى» يجب أن يتم احتضانه وتوظيفه لخدمة صورة مصر ولا أظن أنه سيمانع إذا تعاملنا معه بذكاء.. العالم اختلف.. والمغريات كثيرة.. ومفاهيم الوطنية يتم التشويش عليها فى أذهان الناس، وهناك حاقدون وموتورون يحاولون إقناع الناس بأن المعاناة فى الوطن تصلح مبررًا للخيانة أو للإرهاب أو لأى فعل معادٍ للوطن.. وهذا خلط وتضليل وحقارة.. ومن أجل هؤلاء قال الشاعر منذ عقود «بلادى وإن جارت علىّ عزيزة.. وأهلى وإن ضنوا علىّ كرام».. ولكن «تقول لمين»؟ قلوب أعماها الحقد فلم تعد ترى سوى السواد.