رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى بيتنا مريض نفسى

من سنوات كنت أقوم بعمل تحقيق عن بيع الأطفال.. كان شيئًا مدهشًا بالنسبة لى أن تقوم الأم بالتحديد ببيع طفلها لأى سبب.. وبالطبع فوجئت أنه يوجد الكثير جدًا فوق تصوراتى من هذه الحالات التى تحول بعضها لمحاضر فى الأقسام ومن ثم إلى قضايا تنظرها المحاكم.

كان من الأشياء المثيرة فى الموضوع أيضًا أنه لا يوجد نص قانونى لمعاقبة الأم والأب اللذين يبيعان أبناءهما ولمن يشترى، وذلك لأن المشرع لم يضع نصًا قانونيًا لذلك ولم يضعه فى اعتباره أصلًا، ليس لتقصير أو تجاهل للقضية بسبب قسوتها، وإنما لأنه فى ذلك الوقت لم تكن موجودة قضايا من هذا النوع، لم يكن معروفًا على نطاق واسع أو حتى ضيق أن هناك أسرًا تبيع أطفالها، ولعله فى هذا التوقيت والزمان لم يبع أحد أطفاله.

أتذكر وأنا فى خضم جمع المعلومات والبحث بين أوراق القضايا القديمة والحديثة، أن علمت من مصادرى أنه تم القبض على سيدة وهى تبيع طفلتها ذات العامين، وأنها محبوسة على ذمة التحقيقات فى أحد أقسام شرطة الجيزة، ذهبت للحديث معها عن ذلك وكيف قسى قلبها إلى هذا الحد؟

بالنسبة لى لا يوجد ما يبرر، ولكنها جعلتنى فى حيرة من أمرى عندما قالت لى «أبوها ما أعرفش حاجة عنه من يوم ما حملت فيها، سافر واختفى وأنا مش عارفة أأكلها لأننى لم أعتد العمل بالرغم من أنى أحمل شهادة جامعية، ومش هعرف أربيها لوحدى، وعلشان كده قولت أبيعها لناس تقدر تأكلها وتربيها كويس، أنا خايفة عليها تموت منى، لدرجة إنى فكرت أموتها من خوفى عليها علشان أدخلها جوايا تانى، وبعدين حد قالى إديها لحد يربيها ويتبناها، علشان كده كنت ببيعها ورجعت عن فكرة إنى أموتها». 

بعدها علمت أنه تم تحويلها لطبيب نفسى وأقر بأنها تعانى خللًا نفسيًا شديدًا، وأن الخوف يحول حياتها إلى جحيم، وأنها عانت بشدة بعد الولادة، ومما ساعد فى سوء الحالة غياب الزوج، فشعرت بالوحدة والضياع، وكان من الممكن أن تقتل الطفلة فعلًا وهو ما لم يحدث ربما بسبب فكرة البيع. 

تذكرت هذه القصة وأنا أتابع قضية سيدة الدقهلية التى قتلت أولادها الثلاثة، وحاولت التخلص من حياتها، ربما الظروف متشابهة بعض الشىء، فهى أيضًا كانت تعانى غياب الزوج، ربما لو كان موجودًا معها كانت ظروفها النفسية أفضل، وتعانى كذلك الخوف على أبنائها، يبدو أن الخوف هو محرك كبير ومهم للأحداث فى كثير من الأحيان، ويقال «القطة أكلت أولادها من خوفها عليهم»، حيث إن بعض القطط تفعل ذلك حين تشعر بخوف شديد على أولادها، والخوف فى قصة الدقهلية كان يأكل فى روح وعقل هذه السيدة كل يوم، رغم أنها كانت لا تعانى الفقر بل على العكس يبدو أن الظروف المادية للأسرة كانت مستقرة، ولا تعانى مشاكل زوجية، فقد شهد الجيران وجدة الأطفال وبعض الأقارب والزوج نفسه أن حياتهم كانت جيدة ولم تكن بينهما أى مشاكل، ولم تعان الأسرة مشاكل زوجية بسبب الفلوس مثل أسر أخرى، بل كانت حياتهما كزوجين هادئة وهى كانت سيدة تتمتع بعلاقات طيبة مع الجميع، وهو الدليل الأكبر على أن الفقر والعوز المادى ليس دائما هو المحرك للجرائم، بل إن الظروف النفسية قد تدفع لارتكاب وقائع مؤسفة كثيرة وجرائم بشعة، والاكتئاب كثيرًا ما يتحول إلى وحش ينهش ضحيته، وهو ما نتجاهله دائمًا وبعضنا يتعامل مع الأمراض والاضطرابات النفسية على أنها رفاهية ويوجد فى الحياة ما هو أهم وأقسى منها، خاصة أن اثنين من أبنائها كانا مريضين ويعانيان من التوحد وابنها الكبير لا ينطق، ويبدو أن هذه السيدة كانت تخفى بداخلها قلقًا وخوفًا أو أنها كانت مرهفة الحس وعلى استعداد لانتكاسة نفسية ولا أحد يدرى بذلك من المحيطين بها، كما أن اكتئاب ما بعد الولادة كان جزءًا منه خوفها من أن تكون طفلتها الجديدة مثل أخويها، وسفر زوجها للعمل مدرسًا فى السعودية وإقامته هناك قد جعلها فى وحدة حفزت مشاعرها السلبية، وحدث ما حدث. 

ورغم بشاعة هذه الجريمة، وقسوة جريمة بيع الطفلة التى حدثت منذ سنوات، فإن ذلك يجعلنا نقف أمام حقيقة أن الاضطراب النفسى هو القاتل الحقيقى فى بعض الجرائم، وأنه شىء لا يستهان به، وأتذكر أيضًا أنه حدث مرة أن أصيب ابن فى أسرة باكتئاب وكانت حالته تزداد سوءًا كل يوم، وفى إهمال وتجاهل لحالته من أسرته وتحميل ذلك على اضطرابات فترة المراهقة، حيث إن عمره كان ١٦ عامًا، كان الوحش بداخله يكبر كل يوم دون أن يلاحظه أحد، إلى أن وصل الحال إلى أنه قام بإشعال النيران فى بيته وهم نائمون، ومات مَن مات وأصيب مَن أصيب، ووقعت الكارثة.

إن هذه الجرائم جرس إنذار حقيقى لنا جميعًا حتى لا نغض الطرف عن إصابة أى أحد من أسرتنا بأزمة نفسية وأن تكون عندنا ثقافة زيارة الطبيب النفسى، لا نخجل منها، فليس كل زائر لطبيب نفسى مجنونًا، لذلك علينا التعامل مع هذه المسألة بجدية واستيعاب وقدرة على تحمل الأزمات والاضطرابات النفسية وليس تجاهلها والاستسلام لفكرة «ده دلع».. حتى لا نصحو على كارثة.