رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«ناس وأماكن».. خريطة تغيير الريف المصرى فى نصف قرن

ناس وأماكن
ناس وأماكن

أصدرت دار الكتب خان، منذ أسابيع، كتابًا جديدًا للأديب الكبير عادل عصمت، يحمل عنوان «ناس وأماكن»، يرصد خلاله حياة القرية فى الريف المصرى والتحولات التى شهدها على مدار ٥٠ عامًا.

وقدم «عصمت» خلال كتابه الذى يحتوى على ٢٠٤ صفحات، ما يمكن وصفه بالخريطة الزمنية والاجتماعية للريف، والتغيرات التى طرأت على بنيته وشكله وطبيعة سكانه، متحدثًا عن تفاصيل دقيقة فى أنماط حياة سكان الريف على مدار نصف قرن من الزمان، من أول المقاهى وأنماطها وأشهرها، مرورًا بأفراح الفلاحين وأتراحهم، وعلاقتهم الشائكة بالمدينة ومظاهرها منذ بدء تعليم الأولاد وخروجهم إليها ونقل ثقافتهم إليها.

كما تحدث عن أبرز المشايخ فى الريف، ومظاهر الاحتفال بالأعياد والموالد، وسرد أسماء القرى والسمات التى تتميز بها كل قرية، مستعرضًا تاريخ دخول الحياة المدنية شيئًا فشيئًا إليها، وكأنه يسجل فيلمًا وثائقيًا عن حقبة من الزمن فى الحياة البدائية لأهل الريف المصرى.

ووصف «عصمت» الطبيعة الاجتماعية للقرية، قائلًا: «الحياة بها متلاصقة ليس فى الدور فقط، بل أيضًا فى الغيطان، جيران فى الدور والمقابر، والحياة فى بعض الأماكن جماعية والتعاون شرط أساسى للاستمرار، ولكل بيت رائحة خاصة به مثل راحة اللبن، وبعضها له رائحة البط، وبينما تتميز بيوت أخرى برائحة العجول والسباخ».

ويقدم الكتاب تفاصيل دقيقة عن الحياة فى الريف، مصطحبًا القارئ فى جولة داخل بيت من بيوت القرية، التى يرصد فيها التفاصيل الكاملة من الصباح الباكر إلى أن ينتهى يوم الفلاحين، راصدًا العادات اليومية مثل تسريح البهائم فى الأرض مرورًا بالزراعة، متحدثًا عن الحصاد وبيع المحصول، للمناسبات، وغيرها من الأمور التى يشترك فيها أهل القرية مع سكان القرى المجاورة.

ووصف كيف كان يعيش الفلاحون قديمًا فى منازل بسيطة تتكون من طابق واحد يتم بناؤه بالطين وفرشه بالحصير، إضافة إلى نشاطهم فى العمل فى الأراضى الزراعية ثم امتلاك الأرض الزراعية بعد التأميم، وتوزيعها على الفلاحين، واصفًا فرحتهم بهذه الأراضى، وكيفية اعتنائهم بها، وأنها أصبحت عندهم كالعرض، وصاروا دائمًا يرددون «الأرض كالعرض».

وتطرق إلى تطور شكل البيوت وفرحة الفلاحين بدخول الكهرباء والمياه والأدوات الحديثة للطهى، والسهر فى شهر رمضان وطقوس الفلاحين فى العيد، من لعب الأطفال بالبُمب والمراجيح البسيطة.

ووصف حياة الفلاحين بالشقى والصعوبة، لأن الفلاح يظل طوال اليوم فى الأرض ويرعى الزرع والبهائم، وفى آخر اليوم يعود ويتناول بعض الطعام، ثم ينام أو يتسلى مع بعض الجيران أو أفراد العائلة، ثم يواصل عمله فى اليوم التالى، حيث كل يوم يشبه الآخر.

فى بداية الكتاب، قال «عصمت»: «الأشياء والأماكن تشحن بالرموز بمجرد أن تغوص فى حياة الناس»، متابعًا: «فاعلية حياة البشر مثل عوامل المناخ، تهب الأماكن فضاءها وطبيعتها، يتبقى شىء من الناس عالقًا بالمكان، لكنه لم يعد يخص البشر، تحول عبر عمليات الذاكرة، والتصق بالمكان، أصبح مناخه وطقسه، وسمته التى يفرضها على من حولوه إلى رمز».

وتحدث عن قريته «أبشاواى الملق» بمحافظة الغربية، قائلًا: «ظلت بلدتنا حتى وقت قريب، محاطة بمصرف، يبدأ شمالًا من حوض (الزهرة) وينتهى عند غيطان الحوض (الغربى)، وترعة تبدأ من الريّاح وتنتهى عند خط السكة الحديد».

وأضاف: «حزام المياه جعل جسم القرية معزولًا عن الغيطان، على أطرافها من جهة المصرف أو الترعة بَنَت العائلات الكبيرة بيوتًا واسعة بالطوب الأحمر»، متابعًا: «فى الماضى كان المرء يرى بعض قراريط الجوافة أو الليمون فى مساحات صغيرة أمام البيوت، محاطة بسور من الطين، أو الأسلاك الشائكة، أما الآن فإن البيوت الجديدة قد طغت على المكان وشغلت مساحات كانت فى صبانا جزءًا من الغيطان».

واسترسل فى الحديث عن شكل القرية، قائلًا: «جسم البلد الأساسى، كتلة من البيوت الطينية فى حارات ضيقة، تنفتح أحيانًا على أجران واسعة ومناطق خالية فى وسطها طلمبات بأحواض حجرية لشرب البهائم، وهناك أيضًا ساحات واسعة حول الجوامع التى تخص كل منطقة».

أما عن طبيعة السكان وكبار القوم، فقال: «لكل منطقة شيخها، هو فى الوقت نفسه جامعها وحاميها ومن تقدم له النذور ومن يسهر الرجال على درجات سلالمه فى الليل، قبل الدخول فى الحارة قد تجد نخلتين، وفى إحدى الساحات، تجد شجرة سنط عجوزًا بنيت تحتها مصاطب أمام دكان، كى يجلس الرجال فى العصر، وبجوار المقام ترى شجرة كافور كبيرة».

وتحدث عن شكل المكان، قائلًا: «بجوار المرشح الأساسى، توتة كبيرة وكشك لبيع الحلوى والسجائر، تحوّلت المساحة الواسعة بجواره، إلى موقف لسيارات الفورد، شكلت فى أوائل الستينيات الوسيلة الأساسية للسفر إلى المدن والأسواق، فى وسط البلد وبجوار سيدى عبدالرازق، سوق دائمة يسميها الناس (السوق القديمة). ربما كانت مقرًا، لسوق كبيرة تجمع القرى المجاورة فى زمن بعيد، لم يعد يذكرها أحد».

وتابع: «فى النهار، السوق القديمة مكان للبيع والشراء، وفى الليل فضاء للسهر، تبدأ الدكاكين فى إضاءة الكلوبات وتعليقها فى قضبان من الحديد تتدلى من الأسقف، ينتشر الضوء فى الساحة الخالية، وينير الفانوس عتبة الجامع، وتلمع المداخل الحجرية للدكاكين، وعلى المصاطب فى أطراف السوق وفى مداخل الحارات تجلس مجموعات من الرجال».

وتطرق إلى شكل البيوت: «كانت البيوت الطينية موجودة حتى نهاية الستينيات، طراز من البناء تم استخلاصه عبر آلاف السنين من الخبرة، التصميم متشابه تقريبًا، وإن اختلف اتساعًا وضيقًا وتنظيمًا، حسب طبيعة أهله وثروتهم ومكانتهم ومتطلبات حياتهم».

وقال: «القرية مكان قاتم، الحياة مخنوقة رمادية، ربما بسبب العمل المتواصل، أو بسبب الهم الغامض الذى يعلق بالناس كغبار الأجران، الأفراح قليلة، الأعراس متباعدة، والإضاءة خافتة بالليل، الجسد مهدود، الناس مزمومو الشفاه فى غالب الأحيان».

وتحدث عن التعليم فى القرية: «كانت القرية تعج بالكتاتيب، لذا كان جميع الأولاد فيها يحفظون القرآن وهذا جعلهم يفخرون بين القرى، فكانت قريتنا مميزة من بين القرى المجاورة فى كثرة عدد الكتاتيب».

ووصف الجامع بأنه مركز تجميع للناس، وهو المكان الذى يستشير الناس فيه بعضهم البعض، ويقيلون فيه ويستمعون للدروس الدينية فى عصر رمضان.

وشرح شكل القناطر التى كانت فى قريته، وكيفية جلوس الناس فوقها ومعاكسة الفتيات اللاتى يحملن الزلع ويذهبن للمرشح، متحدثًا عن موضة «القصة» التى تنزلها الفتاة على جبهتها من تحت المنديل الملون.

وسرد طرق المعاكسة بين الفتيات والشباب آنذاك بعد عودتهم من المدن فى إجازة نصف العام أو آخره، وكيف ابتكر الشباب طرقًا جديدة للمعاكسة، والتطور الذى وصل إليه ذلك الفعل.

وتحدث عن الشيخ عبدالوهاب السطوحى الذى تبجله القرية، وهو أحد أصحاب الولى الشهير السيد البدوى ورفيقه فى الحروب والجهاد الروحى، لافتًا إلى أن كل قرية من القرى المجاورة كانت تتمتع بسمة تميزها عن غيرها، فمثلًا قريته كانت تفخر بأولادها المتعلمين بينما كانت تشتهر قرية أخرى بكثرة وجود البخلاء بين سكانها، وأخرى بالبلطجية وثالثة بتربية البهائم.

وتناول أماكن الترفيه والسهر، قائلًا: «كانت هناك مقاهٍ واستراحات على الطرق»، مضيفًا: «على الرغم من بساطة الحياة فإنه كان يوجد بعض السينمات، ٣ كانت أعرق ما فى البلدة، سينما (جندولا) و(مصر) و(أوبرا) والتذكرة من ٩ مليم إلى ٣ ونص قرش».

وتحدث عن تطور ملابس الشباب المتعلمين وتطلعاتهم لمستقبل مشرق، متحدثًا عن انتشار ظاهرة الهجرة إلى ليبيا وإيطاليا، وعن المخاطر التى تعرض لها الشباب فى بداية حياتهم، فمنهم من غرق ومنهم من نجا بالمعجزات.

ورصد الأسباب التى تجعل الشباب يفكرون فى الهجرة، والحكايات التى انتشرت فى القرى والمدن الصغيرة، عن الشباب الذين سافروا إلى ليبيا ومنها إلى إيطاليا، وعرفوا أهوال البحر ونجوا من الشرطة والمخاطر وعملوا لسنوات وعادوا ليشتروا قطعًا من الأراضى، ووضعوا رصيدًا فى البنوك، وصارت تحكى هذه القصص كأنها أساطير، مما يعد شكلًا من أشكال التحريض على المغامرة.