رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أسبوع صاحب الليالى «1»

تحالف «شلة» التوريث والدعاة الجدد ضد أسامة أنور عكاشة

نحتفل بالذكرى الثانية عشرة لرحيل كاتب وطنى نزيه حاربه المتطرفون والفاسدون فى نفس الوقت 

عانى من التهميش مع مجىء حكومة نظيف والتليفزيون اعتذر عن إنتاج أعماله 

الدولة قررت أن تسلم أدمغة المصريين للدعاة الجدد بدلًا من الكتاب والمثقفين فتم حصار صاحب الليالى 

فى عام ١٩٨٢ كنت صبيًا فى الثامنة من عمرى وكان مسلسل الشهد والدموع يعرض جزءه الأول فى فصل الشتاء.. كانت والدتى على عادة أمهات ذلك الزمان تلتزم نوعًا من الشدة فيما يتعلق بالدراسة، وكان من مظاهر تلك الشدة أنها لا تسمح لى بمشاهدة مسلسل السابعة والربع الشهير.. كنت أحاول محاولات متعددة على طريقة «التسلل» فما إن يبدأ المسلسل حتى أخرج من غرفتى إلى الصالة متظاهرًا بالسؤال عن أمر ما وأحاول البقاء أمام الشاشة منتظرًا رد فعل أمى.. فى كل المرات كانت أمى تكتشف لعبتى وتقول لى «ادخل ذاكر» أظن أن السبب كان له علاقة بخوفها من أن تحتوى المسلسلات على ما لا أفهمه كطفل.. كان هناك مسلسل واحد تغاضت أمى عن تسللى للصالة لمتابعته.. لم تعقب على خروجى لصالة المنزل بجملتها الشهيرة «ادخل ذاكر» نجح الأمر فى اليوم الأول والثانى والثالث حتى أصبحت مشاهدة «الشهد والدموع» حقًا مكتسبًا وأمرًا متعارفًا عليه.. لا أدرى الدافع الحقيقى لتسامح أمى مع مشاهدتى لـ«الشهد والدموع» ثم لـ«ليالى الحلمية» فى العام الذى يليه.. هل أحبت المسلسل واطمأنت له؟ هل رأت أن مشاهدته تفيد فى تربيتى؟ هل الأمر محض صدفة؟ فى الحقيقة لا أعرف.. لكن ما أعرفه أننى أحببت أسامة أنور عكاشة منذ الطفولة.. وكبرت على مسلسلاته وتوحدت مع أبطاله واعتنقت كثيرًا من أفكاره.. حين صرت صحفيًا شابًا قصدت بابه لأحاوره وكان من المنطقى أن يكون أسامة أبرز كتاب مجلة روزاليوسف فى عصرها الذهبى «١٩٩٢-١٩٩٨»، وهى فترة تحولت فيها المجلة لمنصة للثقافة المصرية الوطنية تعادى التطرف والفساد ولا ترتاح كثيرًا لأفكار مجانية يطلقها البعض حول التطبيع.. كانت سيناريوهات أسامة أنور عكاشة ومعه وحيد حامد هى المعادل الفنى لهذه الخلطة الفكرية التى آمنت بها والتحقت بروزاليوسف لأشارك فى التعبير عنها.. بينما حملها قلم أسامة أنور عكاشة للملايين عبر خيال مبدع ودراما محبوكة وشخصيات من لحم ودم.. كان أسامة أنور عكاشة مثل كل الكبار متواضعًا وبسيطًا.. ما إن تطلب مقابلته حتى يقول لك تعال.. بلا عُقد ولا حسابات ولا «كلاكيع» كان فى ذلك الوقت من التسعينيات يسكن فى حدائق الأهرام.. وكان ذلك وقتها حيًا بعيدًا للغاية.. تصل إليه مواصلات نادرة ومع ذلك كانت الرحلة بالنسبة لى ممتعة.. كان يخصص لنفسه حجرة مكتب فى منزله ويضع مكتبه بحيث يواجه الحديقة المقابلة لشقته السكنية.. يرتدى جلبابًا قطنيًا كان شائعًا وقتها ونعرفه باسم «العباءة المغربية» ويرتديه كل المصريين بمختلف طبقاتهم.. يجلس على مكتب صغير وأمامه علبة سجائر أجنبية، ولكن الغريب أن المكتب أيضًا كان عليه «بايب» أو غليون مع أدوات تنظيفه والدخان الخاص به.. وإلى جانب المكتب كانت هناك «شيشة»! وكان الغريب أنه تناوب على تدخين الثلاثة أنواع، ونحن نتحاور عرفت منه أنه يجمع بين تدخين الأنواع الثلاثة فى أوقات معينة حتى يستطيع التركيز فى الكتابة.. وقد كانت هذه ضريبة حبه لعمله ورغبته فى الوصول لأفضل نتيجة ممكنة وكانت النتيجة أنه رحل فى سن مبكرة نسبيًا.. أو أن العمر لم يمتد به كما امتد بعدد من المصريين الاستثنائيين مثل نجيب محفوظ والأستاذ هيكل.. رحل أسامة مبكرًا وكأنه تعب من المعارك والمواقف التى دفع ثمنها كاملًا قبل رحيله.

الشهد

هناك عشرات الأسباب التى تجعلنا نتوقف لتكريم أسامة أنور عكاشة.. أسباب فنية وأخلاقية ووطنية وعاطفية ووجدانية أيضًا.. لكن الحقيقة أن «وطنية» أسامة أنور عكاشة على رأس هذه الأسباب.. فهو نموذج لمثقف وطنى.. يعى جيدًا أعداء هذا البلد ويقف موقفًا قويًا من «التطرف» و«الفساد» طرفى تحالف طيور الظلام.. وقد تحالف التطرف والفساد ضده فيما تلا عام ٢٠٠٤ وهمّش رجال أمانة السياسات فى الإعلام أعماله وأسقطوه عن عرشه ورفضوا إنتاج مسلسلاته وقدموه قربانًا لمجموعة من رجال الأعمال كانوا يتهمون الإعلام والدراما بتشويه صورتهم وتقديمهم كفاسدين ومستغلين فى حين أنهم ليسوا كذلك.. وبطبيعة الحال فقد كانت أعمال أسامة أنور عكاشة فى القلب من هذا الاتهام.. وما إن جاءت حكومة أحمد نظيف فى ٢٠٠٤ حتى انزوت أعماله وتخلف كبار النجوم عن لعب أدوار البطولة فيها وانطلقت بعض الأقلام تتهمه لأنه فقد بريقه ولم يعد كما كان فى سابق عهده.. ولم يكن من الوارد طبعًا أن تنتج له قنوات رجال الأعمال أو أن تعرض مسلسلاته.. فزاد هذا من الحصار المفروض عليه وإحساسه بالتهميش وبأنه يعاقب على موقفه من التوريث وانتقاده التداخل بين رجال الأعمال ودوائر الحكم، ووصل الأمر إلى قمته حين رفض التليفزيون المصرى إنتاج الجزء الثالث من «المصراوية» بحجة أن الجزءين السابقين لم يحققا النجاح المطلوب.. ولا أعرف هل أدرك أسامة أنور عكاشة ما يتعرض له أم لا.. لكن ما أرصده كباحث أن السياسة الإعلامية فى مصر شهدت تغيرًا كبيرًا منذ بداية الألفية وإجراءات التكيف الهيكلى وظهور مجموعة رجال الأعمال الجدد وأن هذا شهد تغييرًا فى صياغة وعى المصريين، حيث كانت الدراما هى التى تتولى صياغة هذا الوعى طوال الثمانينيات والتسعينيات من خلال كبار الكتاب مثل أسامة أنور عكاشة ومحفوظ عبدالرحمن ووحيد حامد ويسرى الجندى وكرم النجار.. ومحمد جلال عبدالقوى «كان يعبر عن تيار فكرى محافظ» ولا شك أن وزير الإعلام صفوت الشريف رغم أى تحفظات عليه كان مدركًا دور كبار الكتاب والفنانين فى صياغة وعى المصريين وأنه تم تعطيل هذا الدور بعد مغادرته منصبه كوزير للإعلام ضمن حزمة التغييرات الجديدة استعدادًا للتوريث.. وكان الملاحظ أن هذا التراجع فى دور أسامة أنور عكاشة كصائغ لوعى ملايين المصريين عبر الدراما تزامن مع صعود من عرفوا باسم «الدعاة الجدد» عبر القنوات السعودية وقنوات رجال الأعمال فى مصر ليرث الداعية دور الكاتب ويحل الدعاة الجدد بخطابهم المحابى لرجال الأعمال والمفصل خصيصًا لمدح الثروة والأثرياء وإرضاء جماعة الإخوان وخدمتها محل كاتب مثل أسامة أنور عكاشة كان ينحاز للحارة فى مواجهة السرايا مثلما فعل فى «الشهد والدموع» و«ليالى الحلمية» وينحاز للرقى فى مواجهة القبح مثلما فعل فى «الراية البيضا» و«ضمير أبله حكمت» و«أرابيسك».. ولا شك أن أسامة بهذا المعنى كان «شهيدًا» بشكل ما.. ولا شك أيضًا أن مصر دفعت غاليًا ثمن جريمة تغييبه وزملائه ومنعهم من التأثير فى الأجيال الجديدة من المصريين التى باعتها حكومة التوريث لشلة التوريث من جهة ولدعاة الإخوان ورجالهم من جهة أخرى ليشكلوا وعيها وطريقة تفكيرها ويقنعوها بكل ما هو سطحى وتافه وشكلى واستهلاكى وغير مصرى ورخيص.. لقد كانت هذه جريمة تاريخية كاملة الأركان عوقب كل من تصدى لكشفها ومقاومتها وكان أسامة أنور عكاشة على رأس هؤلاء.. ولم يكن غريبًا أن يصطاده أحد الدعاة الجدد على شاشة غير مصرية من رأى فنى أبداه فى شخصية الصحابى عمرو بن العاص، حيث قال إنه لا يجد فى شخصيته ما يستحق التجسيد دراميًا وإنه يعترض على دوره السياسى.. اتخذ الدعاة الجدد من مرتزقة الإعلام غير المصرى ذلك التصريح تكئة لتكفير أسامة واستفزازه وجره إلى معركة تافهة. وكان هو بطبيعته مقاتلًا وعنيدًا.. وتقدم أحد المتطرفين بدعوى حسبة ضده فى المحكمة وفرضت الشرطة حراسة شخصية عليه فى آخر عامين من حياته.. والمعنى أنه كان مثل نجيب محفوظ ويوسف إدريس وكل مثقفى مصر العظام مصريًا شريفًا ضد الفساد والتطرف يغار على بلده ويحلم بأن يكون كما يستحق ويرفض أى نفوذ ثقافى لغير المصريين على مصر.. كان مصريًا شريفًا، ولاؤه لمصر لا يشتريه درهم ولا دينار ولعل هذا كان سر عذابه.

على البدرى

كان أسامة مصريًا بدرجة تهز الوجدان وكان مفكرًا كبيرًا فى ثوب سيناريست ولم يكن ينافس عمق أفكاره سوى حلاوة الحوار الذى يجريه على لسان أبطاله وحبكة الصراع فى مسلسلاته وكان من علامات غيرته على مصر كتاباته الواضحة والجريئة ضد ما أسماه «وهبنة» مصر.. أو نشر الأفكار الوهابية فيها.. كان يقول هذا قبل أن تبدأ المملكة التحول نحو التنوير بسنوات طويلة وفى وقت كانت السياسة الرسمية للمملكة هى نشر الوهابية بالفعل وقد كانت هذه شجاعة كبيرة منه دفع ثمنها غاليًا بكل كبرياء كما يليق بنابغة مصرى من أبناء مصر وعارفى قيمتها.. وأذكر أن غيرته على مصر دفعته للدخول فى معركة حامية مع المخرج السورى نجدة أنزور على صفحات روزاليوسف فى ١٩٩٤بعد أن هاجم أنزور الدراما المصرية واتهمها بعدم التطور والجمود وكان من علامات مصريته الناصعة انشغاله بسؤال الهوية.. من نحن؟ وعلى أى نمط بناء سنبنى بلدنا.. هل نحن فراعنة؟ هل ننتمى للبحر المتوسط وجنوب أوروبا؟ هل نحن عرب يجب أن نذوب فى الوطن العربى والثقافة الإسلامية العربية؟ حمل أسامة هذه الأسئلة على ظهره فى مرحلة النضج الفكرى وعبر عنها بشكل واضح فى «أرابيسك» وبطله هو المواطن المصرى بعيوبه قبل مميزاته.. حسن النعمانى.. الصنايعى الماهر والكسول أيضًا.. الذى قاتل فى حرب أكتوبر وعبر ثم استكان إلى اللا فعل.. حسن الذى ينافسه قريبه الرخيص «رمضان الخضرى» ويحقق أرباحًا أكثر منه مئات المرات والذى يخطف ابنه منه سوقى آخر هو رمضان الدكش الذى يرتدى جلبابًا أبيض ويعيش فى دولة عربية وكأنه يرمز لشىء ما.. ثم يطارده الموساد حين يشرع فى بناء قاعة على الطراز العربى فى فيلا عالم مصرى عائد من الغرب.. هؤلاء هم أعداء حسن النعمانى الذى اختطف سليم الأول جده وحبسه فى الأستانة.. الخضرى الفاسد والدكش المتطرف والموساد المتربص.. أما الفيلا كلها فتنهار لأن الجمع بين «الغربى» و«الشرقى» لن ينجح.. حسن النعمانى هو المواطن المصرى وهو أيضًا أسامة أنور عكاشة نفسه.. سؤال الهوية يعبر عن نفسه أيضًا فى «زيزينيا» حيث بطله بشر عامر عبدالظاهر من أب يرتدى الجلباب وأم إيطالية.. وهو نفسه «بوتشى» حين يذهب لأخواله فى زيزينيا والمعلم بشر حين يذهب لمنزل والده فى كرموز.. وهو يحب «إيدى» أو عايدة المتفرنجة لكنه يتزوج «سمحة» بنت البلد.. مصرى آخر مضطرب ومرتبك بين هويات مختلفة.. لكنه شريف وأخلاقى وواضح.. مصرى آخر مرتبك ولكنه حقيقى وصادق هو على البدرى.. المرتبك بين مبادئه وقانون السوق.. بين رومانسيته التى كانت سببًا فى عذابه وبين القسوة التى تخالف طبيعته.. بين الأحلام الكبيرة للوطن وبين الأهداف الصغيرة للشخص.. بين اشتراكية عبدالناصر وبين مشاركة أقارب المسئولين فى زمن مبارك «يحسب للرقابة أنها سمحت بذلك الخط وقتها» بين دفء الحلمية فى الستينيات وبين برودة شقة الزمالك فى التسعينيات.. حيرة مصر المستمرة حتى الآن وهى تسير فى طريق المستقبل وهناك من ينوح ليرجعها للماضى.. هناك الكثير والكثير جدًا ليقال حول أسامة أنور عكاشة المثقف صاحب البصيرة.. والكاتب النزيه والمفكر العملاق ابن المشروع الوطنى المصرى الذى حاربه طيور الظلام وعملاء الخارج ووزراء التوريث ودعاة الإخوان.. لكنه هو الذى بقى فى النهاية.. سلامًا عليك فى ذكراك أيها المصرى النزيه.

اسامة انور عكاشة (2)
اسامة انور عكاشة
اربيسك
بشر عامر