رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الأستاذ والأب الروحى.. صاحب الحكمة والعبث

 أحمد حلاوة
أحمد حلاوة

لم أصادف فى حياتى مثل هذا الشخص، تجتمع فيه كل المتناقضات؛ القوة والضعف، الهيبة والبساطة، الحكمة والعبث، التقليدية والحداثة، وأهم المتناقضات هى الأب والابن!

نعم، لك أن تتخيل عزيزى القارئ أن أحمد حلاوة ارتفع فى مرتبة الأبوة- بالنسبة لى- حتى ولد من أحشائى طفلًا رضيعًا.. كثيرًا ما خفت عليه خوف الأب على ابنه، وأشفقت عليه شفقة الحبيب الذى يرى محبوبه يلقى بنفسه فى المهالك، وحلمت به ناجحًا متفوقًا سابقًا كل أقرانه! لا تتعجب عزيزى القارئ، أما قلت لك إنى لم أصادف مثل هذه العلاقة فى حياتى!

بدأت رحلة تلمذتى على يد هذا الأستاذ منذ أن كنت أحد طلبته الكثيرين فى كلية الآداب قسم علوم المسرح بجامعة حلوان، فوقتها قد أُنشئ القسم حديثًا وكان هو أحد مؤسسيه وداعميه، حتى وافته المنية.. والغريب أن صورة الأستاذ التى تكونت فى ذهنيتى عن أحمد حلاوة مرت بمراحل تكوين متعددة حتى وصلت إلى ما هى عليه.

وقد يصيبك العجب حين أصارحك بأننى فى بادئ معرفتى بالأستاذ لم تكن تلك الصورة على خير ما تظن! فلعلى كنت فى رعونة الصبا أبحث عن شخصية أستاذ يجارينى أهوائى، ويكيل لى المديح بصرف النظر عن جودة ما أقدمه، أستاذ لا يجرح كبريائى الواهى بكشف أخطائى ونقائصى، قدر ما يخدعنى بأكاذيب تفوقى وموهبتى التى لا مثيل لها!

ولأن أحمد حلاوة لم يكن هذا النوع من الأساتذة فلم يكن ينال من إعجابى الكثير، بل على العكس كنت كغيرى من الطلبة نغتاب حضرته المهيبة بالسخرية والتنمر الصبيانى الهازل، إنها مجرد أشكال من حيل الدفاع النفسى التى تسعى لأن تثبت للذات- المتعالية المريضة الرافضة كل فرص الشفاء- أنها على أفضل ما يكون، وليس العيب فيها وإنما فى هذا الشخص الذى كثيرًا ما حمل مرآة صافية كاشفة فى مواجهة عيوب النفس!

وما يدهشك عزيزى القارئ أنه كان يستشعر من قبلنا هذه الطاقة السلبية المتغطرسة المريضة، ومع ذلك لم يغيّر يومًا من أسلوبه المواجه المثابر المقاتل الشجاع، بل كانت عبارته الشهيرة التى لم يتوقف يومًا عن ترديدها حتى فارقنا؛ وهى: «أنا بعامل ربنا».

على الرغم من تلك الحالة المعادية المقاومة التى بدأت بها رحلة تلمذتى على يد هذا الرجل، فإننى لم أكرهه يومًا، بل إن الغريب والمدهش فى ذات الوقت أنه على الرغم من حالة الإنكار والرفض هذه، إلا أن هناك شيئًا ما بداخلى كان يجذبنى له طوال الوقت، وكأن ومضة من ضوء خافت بداخلى تنجذب لطاقة نور كامنة فى شخصه، وكأن العناية الإلهية تدفعنى دفعًا لمصدر حياة ونماء يتدفق منه.

وكأن شهوة المعرفة الحائرة المشتتة الموجودة فىّ وجدت أخيرًا ضالتها فى نبع صافى من المعارف الحقيقية المتدفقة من روحه الطاهرة وذهنه المستنير.. ورويدًا رويدًا بدأت أصغى إليه، وأرهف السمع لكلماته، وأستعذب منطقه، وأنبهر بمواقفه، وإذ كنت سابقًا أفر هربًا من مجلسه، بدأت أتطفل عليه فارضًا نفسى على محضره، ومن بعد أن كانت كلماته مناط سخرية وتندر منى، أصبحت حكمًا وأقوالًا رشيدة تخترق عبارات حديثى مكللة إياها، وهنا أدركت أنى على مشارف مرحلة من الإدراك الحثيث لحقيقة هذا الشخص، ومن ثم بدأ أحمد حلاوة بعدها يعتلى فى فكرى وقلبى درجة الأستاذ مع مرتبة الشرف.

وهنا أصبحت العلاقة- من وجهة نظرى- تسير فى مجراها الإيجابى؛ أستاذ يغمر تلميذه بالمعارف النافعة، وتلميذ يتشوق لكل ما يتفوه به أستاذه، ولكن سرعان ما أخذت هذه المرحلة شكلًا جديدًا لم أكن أتوقعه؛ فتحوّل الأستاذ إلى أب روحى، فإذا كانت مؤهلات الأستاذ هى العلم الوافر والقدرة على تنوير مريديه، فإن مقومات الأب الروحى تتجاوز ذلك بكثير، حتى يتحتم عليه أن يصل إلى أعمق أغوار النفس ويسيطر عليها بالحب والمعرفة، ويتوغل حتى يصل إلى مفرق الروح ويلتحم بها فى رباط مقدس، وهذا ما حدث بالفعل بين الأب الروحى «أحمد حلاوة» والابن «أنا».

وأصبحت مشورة الأستاذ لا تقتصر فقط على حياتى العلمية والأكاديمية، بل تخطتها إلى حياتى بوجه عام. حتى إن أولادى كانوا ينادونه بـ«جدو حلاوة»!

وعلى الطرف الآخر من العلاقة لم يكن أحمد حلاوة مجرد أستاذ أو أب يلقى على مسامعى كلماته وأنا أستقبلها، فلم يكن مجرد مُرسِل وأنا مُستقبِل، فقناعتى أن العلاقات الحقيقية الناضجة هى علاقات دائرية؛ تقوم على التبادل الودى الحبى بين المعطى والآخذ، والمعلم والتلميذ، والأكبر والأصغر، والأعلى والأدنى، والأعلم والأقل علمًا.. وهذا ما كنا عليه.

فكثيرًا ما منحنى عن طيب خاطر ورحابة صدر زمام قيادة العلاقة الإثنينية بيننا!، نعم .. تخيل أن الأب يسأل ابنه: «ما رأيك فيما فعلت؟!»، «هل ترى يا ولدى أنى أخطأت فى هذا التصرف؟!». نعم هذا ما كان يفعله معى أحمد حلاوة، والعجيب أننا كثيرًا ما دخلنا فى مناقشات شرسة، طرفاها هو وأنا، حيث يقاتل هو منفعلًا من أجل إقناعى بوجهة نظره، وأنا فى بعض الأحيان لم أكن مقتنعًا بها، فأفند له أسباب عدم اقتناعى. وعلى الرغم من أن المناقشة بدأت بقناعته الراسخة برؤيته، وعلى الرغم من انفعاله الشديد، وعلى الرغم من أنه الأستاذ والأب، والأكثر علمًا وخبرة، فإنه أحيانًا ما كانت تنتهى المناقشة بجملته الجميلة القوية: «إنت صح».

هذه كانت طبيعة علاقتى بأبى الروحى؛ علاقة حية قوية حقيقية بنائية، دائمة ومستمرة لا يصيبها فتور أو رخاوة.. استمرت معى فترة تجاوزت العشرين عامًا، عاصر فيها معى أهم وأحلك فترات حياتى، حيث كنت طالبًا، فمعيدًا، فمدرسًا مساعدًا، فأستاذًا.. كان فيها مشرفًا على رسالتى العلميتين الماجستير والدكتوراه.

علاقة لم تتوقف يومًا واحدًا منذ أن عرفته حتى قبل وفاته بأيام؛ قُبيل دخوله فى مرحلة العزل الصحى أثناء مرضه، إذ قد حادثنى تليفونيًا؛ مكالمة تجاوزت الساعة، مضمونها هو مستقبلى الإنسانى والفنى والعلمى.. نصائح تتعلق بمسار حياتى وإدارة موهبتى فى الوسط الفنى، وكيفية توجيهها بما يتناسب مع طبيعة مرحلتى العمرية. مكالمة لم تخلُ من الحب والأبوة والرعاية، وكثيرًا ما كان يكرر على مسامعى- سواء فى تلك المحادثة أو غيرها- هذا القول: «إنت يا فريد ابنى اللى أنا ماخلفتوش».. و«لو فيه حد ممكن يكمل مشوارى هيكون إنت».. و«خليك دوغرى راعى ضميرك واوعى تعامل حد غير ربنا».

كلمات ما زال يتردد صداها داخلى، تأسرنى بقوتها رغم مرور الزمن، لا تتلاشى ولا تبلى ولا تندمل، لها قوة الحياة التى تغلب الموت، وديمومة البقاء الذى يلغى الزمن.. «وحشتنى يا أستاذى وأبى الروحى».