رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

التعاطى الثورىّ في مصر والسودان (1919-1924)

جريدة الدستور

ليس ثمَّة جدل أن الثورات من أعظم الحوادث التي أثرت في العالم الحديث، وشكَّلت المبادئ الأساسية للدولة الحديثة، وإنه لمن الضرورىّ لكى تُفهَم روح الثورات، أن تُقرأ في ضوء فلسفة التاريخ، علَّه يقع منها على ما يُنير البَصيرة، ويُزيل اللَّبس الذى يَعترى الأحكام الآنية أو المُتسرِّعَة إزاء الأحداث أو الأشخاص، وبالتالى فمن الضروري ألا يَغيب دور المنطق العقلىّ الذي يُفسر الحدث فى إطار ظرفه المكانىّ-الزمنىّ، وأن يُدرَك دور القادة الأساسي فى الفِعل الثورىّ.

ولعلَّ المجتمع المصرى، فى أوائل القرن العشرين، كان قد بلغ مبلغًا من الغليان الكامِن الذى ينتظر الانفجار، لاسيما إبَّان فترة الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، التى أعادت تشكيل ملامح المجتمع المصري؛ اجتماعيًّا، واقتصاديًّا، وسياسيًّا، وثقافيًّا. وقد بلغ التعاطى المصرى معها "شعبيًا، ونخبويًّا"، معها بأن بلور نفسه وبَدَت إرهاصات عملٍ وطنىٍّ ثورىٍّ قادِم، أودَى إلى وضع بدايةٍ لحقبةٍ جديدة فى تاريخ مصر المعاصرة، وهى "ثورة 1919" (الشعبية)، بقيادة زعيمها "سعد زغلول".

لم يكن السودان الشقيق آنذاك، بعيدًا؛ فقد كان يئن من ممارسات الاستعمار البريطاني العتيد، الذي كان يبذل كل ما يحول به دون تحقيق أو استمرار الوحدة (المصرية-السودانية)، منذ توقيع الحكم الثنائي "البريطاني-المصري" للسودان، منذ العام (1899).

وأمَّا وقد كان المستعمر واحدًا، والمعاناة واحدة، فى شطرى وادى النيل (مصر، والسودان)، فقد كان الحدث السياسي، والعمل الوطني ذا تأثيرٍ وتأثُّر؛ فما أن اندلعت أحداث "ثورة 1919"، فى مصر، إلا وبدأ المدُّ الثورىّ للسودان، وأخذ التعاطى السودانى مع أحداث الثورة فى الشارع المصري، أو مع قادتها –سعد زغلول، ورفاقه- الذين تعرَّضوا للنفى إلى مالطه، مأخذًا مهمًا ذا تأثيرٍ فى قرارات الإدارة البريطانية؛ خاصة وقد كان السودان، كذلك، يشهد كالبركان، غليانًا داخليًّا كامِنًا، قد حان انفجاره بانفجار الوضع فى مصر، لتبدأ موجة جديدة من العمل الوطنى-الثورى، تعاطى معها الشعب المصري، وقادة العمل الوطنى، بل والحكومة المصرية معها على نحوٍ كبيرٍ ومهم.

من هنا يمكن القول بأن ثمَّة أسبابٍ وقسماتٍ مشتركة كان بين المجتمع المصري والمجتمع السوداني قادت كليها إلى الثورة على المحتل الواحد في كلا الجانبين، وهو المحتلّ الإنجليزي، إضافة إلى الضغوط الاجتماعية والاقتصادية، من تعليمٍ، وصحة، وحالة الفلاحين، والزراعة، والصناعة، وغيرها في المجتمعين؛ المصري والسوداني، وإن كانت أكثر سوءًا في السودان عن مَثيلتها في مصر، على أنه في مصر لم يكن هذا يعني أنها كانت على النحو الجيد، فلم تكن كذلك إلا لفئةٍ اجتماعية بعينها، أما معظم الشعب المصري فكان في حالة أقلّ ما يقال عنها أنها كانت سيئة.

وعندما اندلعت الثورة في مصر، في مارس 1919، كان أوضح أثر لها في السودان، هو التفاعل شبه اليومي مع أحداث الثورة في مصر، بل وتبايُن المظاهر العامة؛ من اللُّحمة الوطنية بين المسلمين والمسيحين، إلى اشتراك المرأة، وتكوين الجمعيات السريَّة، وتوزيع المنشورات على نفس النمط في مصر، حتى أن بعضها كان على اتصال وثيق الصلة مع مثيلتها في مصر، بل أن التفاعل الأدبي والفني مع الثورة في السودان اتخذ المنهاج أو الصورة نفسها له في مصر، من نشر أبيات الشعر، والقصائد، والزجل، وغيرها من مظاهر الثورة.

كما أن وجود السودان كمحورٍ رئيس في المفاوضات المصرية البريطانية، وتمسُّك مصر بالوحدة مع السودان، وأن السودان جزء أصيل من وجود الدولة المصرية، قد فرض حالةً من الثورية داخل المجتمع السودان، وإن لم يفت هذا من عضض الثورة وجود بعض التيارات الموالية للاحتلال البريطاني. وعندما اشتعلت نيران الثورة في السودان على نحو أوضح في 1924، بعد حادثة مقتل "السير لي ستاك"، حاكم عام السودان، سردار الجيش المصري، تفاعلت الثورة في مصر، وحكومتها، برئاسة سعد باشا زغلول، بل والبرلمان المصري، مع الثورة في السودان وقائدها، الملازم أول "على عبد اللطيف".

على هذا النحو، يتناول الباحث فى هذه الورقة، تحليل قضية الكفاح الوطنى-الثورىّ فى مصر، والسودان فى الفترة (1919-1924)، فى النقاط التالية:

أولًا- تبلور إرهاصات الثورة فى مصر والسودان (1914-1918).
ثانيًا- ثورة 1919، والمدّ الثورى للسودان.
ثالثًا- التعاطى السودانى مع الثورة فى مصر.
رابعً- الكفاح الوطنى والثورة في السودان (1919-1924).
خامسًا- التعاطى المصري مع الثورة فى السودان

*الباحث فى مركز تاريخ مصر المعاصر، دار الكتب والوثائق القومية، مصر