رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

شيخ الأزهر من أندونيسيا: الانحراف عن الوسطية يصيب الدين في مقتل

جريدة الدستور

القى الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، ورئيس مجلس حكماء المسلمين، صباح اليوم الثلاثاء، الكلمة الرئيسية في الجلسة الافتتاحية للقاء التشاوري العالمي للعلماء والمثقفين حول وسطية الإسلام، بحضور الرئيس الإندونيسي جوكو ويدودو، ولفيف من كبار الشخصيات الدينية في العالم، في قصر الرئاسة بمدينة بوجور الإندونيسية.

وقال «الطيب»: إن موضوع الوسطية هو موضوع قديم جديد، ومن المعلوم لدى المسلمين جميعًا، أن الله تعالى وصف هذه الأمة بأنها أمة وسط، فقال تعالى: «وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا»، وأن النبي صلى الله عليه وسلم فسر «الوسط» في هذه الآية بأنه «العدل» فقال:« الوسط العدل، وجعلناكم أمة وسطا».

وأضاف شيخ الأزهر خلال كلمته بأندونيسا، أنه رغم وضوح معنى «الوسط» في القرآن الكريم والسنة المطهرة، وارتباطه بمعنى العدل والخيرية، إلا أن هذا المفهوم تعرض لما تعرصت له مفاهيم أخرى من اختلاف وتنازع، مثل: مفهوم أهل السنة والجماعة، ومفهوم السنة والبدعة، بل مفهومِ التوحيد الذي هو أصل الأصول وعمود خيمة الدين، وليس من المبالغة أن أقول: إن اختلاف المسلمين في القرنين الماضيين حول هذه المفاهيم؛ كان من وراء ما أصاب الأمة من فرقة واختلاف وضعف وغرق في بحور من الدماء.

وأشار الطيب إلى أن سبب هذا الاختلاف هو اختلاف المعيار بين الوسطية الإسلامية والوسطية اليونانية، منطلَقا وغاية، فبينما توجه الفلسفة اليونانية وجهها تلقاء المال المبذول ومصلحة من يبذله، تنظر الفلسفة الإسلامية إلى «الباعث الموجب ومصلحة المبذول له حتى لو تعارضت مع مصلحة الباذل في بعض الأحيان»، وأن بعض المفكرين المسلمين من المعاصرين يذهب إلى أن مفهوم «الوسطية والاعتدال» قد اختطف في الأعوام الأخيرة إلى مجال ما يسمى «الإسلام السِّياسي» وذلك حين عمد بعض الكتاب الغربيين إلى حشر المسلمين كل المسلمين في سلّة الإرهاب، بما يستلزم بالضرورة إفراغ «الوسطيَّة والاعتدال» من معناهما الشرعي إفراغًا تامًّا، وحتى حين ميز البعض الآخر منهم بين الحركات الإسلامية المتطرفة والحركات المعتدلة، فإنهم خلطوا خلْطا عجيبا بين «العلماينة المتطرفة» ، وبين «الاعتدال والوسطية الإسلامية، مؤكدًا أن أمة الإسلام إما أن تكون أمة وسطًا، وإما ألَّا تكون، وأن أي انحراف عن عن الوسطية إلى طرف من طرفيها المتقابلين يصيب ديننا العظيم في مقتل.

وأوضح شيخ الأزهر، أن هذه التأويلات والتي ذهبت مذاهب شتى في تفسير «الوسطية الإسلامية» حملَت بعضا آخر من العلماء المسلمين على أن ينظر لهذه الوسطية الإسلامية من منظور آخر مختلف تماما عن منظور «القِيمة المعيارية» الخلقية فنقلها إلى المجال «الأنطولوجي» الوجودي، وفسر «الآية الكريمة» على أنها إخبار من الله تعالى بأن أمةَ الإسلام إنما جاءت لتمثل «الأمةَ الوسط» بالقياس إلى ما كانت عليه الأمم السابقة، ثم فسر «الوسط» بأنه إحياء عهد إبراهيم عليه السلام بعد ما تعرض هذا العهد لما تعرض له على أيدي الأمم السابقة، وأن قوله تعالى: ﴿لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ يؤكد ذلك، وأيًّا كان أمر الاختلافات المعاصرة في تفسير الوسطية؛ فإن القدر الذي ينبغي الاحتفاظ به هو، أن حديثنا اليوم عن الوسطية يجب أن ينتقل من مجال البحث والنظر إلى مجال العمل والتطبيق، وأن يكون حديثنا عنها في مؤتمراتنا ليس حديثًا تملِيه العواطف الجياشة لمجرد الكشف عن جماليات هذا الدين الجميل، وإنما لإعادة استكشاف هذه الحقيقة القرآنية التي شاءها الله أن تشكل إطارًا حاكمًا لمضامين هذا الدين الحنيف، عقيدة وشريعة وأخلاقا، والنزول بهذه الحقيقة إلى أرض الواقع وبعثها من جديد في وعي هذه الأمة ومسيرتها، بحيث يصدق الحكم بأن أمة الإسلام إما أن تكون أمة وسطًا، وإما ألَّا تكون، والمسلمون اليوم هم أمس الناس حاجةً من أي وقت مضى لأن يدركوا أنأي انحراف عن مجال الوسطية إلى طرف من طرفَيها المتقابلين، يصيب هذا الدين العظيم في مقتل، سواء في ذلك الخروج إلى طرف الغلو والتطرف، والخروج إلى طرف العلمنة أوالحداثة المستوردة، وعلينا أن نفهم من فلسفة الوسطية أن طرف التزيد لا يقل إفسادا للدين عن طرف التنقص منه، فكلاهما مذموم وقبيح ومرفوض، وعلينا أن نعلم أيضا أن الذي يتشدد ويغالي ويحرم الحلال في الدين ليس أقل جرمًا، ولا أنجى مالا من الذي يحل ما حرم الله، كلاهما معتد على حرمة الإسلام، وكلاهما خارج على حدوده وتعاليمه، وكلاهما كاذب يزعم لنَفسه حق التشريع في الدين بما لم يأذن به الله.

وختم رئيس مجلس حكماء المسلمين حديثه موجهًا لرئيس جمهورية اندونيسيا، قائلاً:« سيادة الرئيس، إن الوسطية مظهر من مظاهر رحمة الله بخلْقه، تتجلى بأبهى حلَلِها في يسر هذا الدين ورفع الحرج عن عباده المؤمنين به، هذا الدين الذي قال الله عنه: «يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر».