رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

على هامش الأزمة

لدىّ ملاحظة على هامش الأزمة الاقتصادية العالمية وانعكاسها فى مصر.. هناك مهزومون شامتون وعواجيز فرح وهؤلاء لا قيمة لهم عندى ولا اعتبار.. هناك فئران خرجت من جحورها وارتفع صوتها بعد طول سكوت وهؤلاء عملاء، أجرهم مدفوع، ومحركهم معلوم، وهؤلاء أيضًا لا قيمة لهم ولا اعتبار ولا يستحقون حتى شرف الخصومة.. ولا شرف الضرب بالحذاء حتى.. قاذورات ملقاة فى أركان المنافى لن يذكرهم أحد ولن يترحم عليهم أحد.. إذا نحيت هؤلاء جانبًا ممسكًا بمنديل ورقى كى لا تتلوث يدك فأنت إزاء فريقين من المصريين.. كلاهما يمارس خطيئتى «الاجتزاء» و«التعميم».. المتشائمون والمتأثرون بالدعاية المضادة يشككون فى إقبال المصريين على شراء الشهادات البنكية الجديدة ذات العائد المرتفع.. الإقبال دليل على ثقة كبيرة فى النظام المصرفى، وفى الاقتصاد المصرى، وله دلالات لا تخطئها عين حول وجود شرائح معقولة من المصريين فى أوضاع اقتصادية جيدة.. المتشائمون يشككون قائلين «مبلغ الـ٥١ مليارًا ليس كله ودائع جديدة» و«هناك من فك ربط ودائع قديمة واشترى بها شهادات جديدة».. حسنًا جدًا.. جزء من هذا حقيقى.. وهو مؤشر إيجابى.. الناس أعادت إيداع أموالها فى البنوك مرة أخرى.. لم يهربوا بودائعهم خارج النظام المصرفى، وبالتأكيد هناك وافدون جدد أغراهم سعر الفائدة المرتفع بشراء شهادات بنكية للمرة الأولى.. على الجانب الآخر ترى بعض المؤيدين للدولة أيضًا يمارس التعميم ويعتبر الإقبال على شراء الشهادات دليلًا على أن «الناس معاها فلوس» وهذا كلام صحيح لكنه ينطوى على نوع من التعميم.. الفكرة أننا مجتمع كبير جدًا وثرى ومتنوع، نحن شعب كبير قرابة مائة مليون مصرى.. نحن أمة كبيرة، فينا أثرياء كثيرون، وفقراء كثيرون ومستورون كثيرون.. وبالتالى فلا داعى للتعميم لا ممن يرون الصورة سوداء، ولا ممن يردون عليهم فيجزمون بأن الصورة بيضاء ناصعة البياض، والحقيقة أن صورتنا فى مصر طبيعية وفيها كل الألوان، وهذه نعمة كبيرة لو أحسنا استغلالها.. بكل تأكيد فى مصر موسرون وأثرياء كبار وأثرياء بشكل نسبى.. هناك طبقة وسطى من المهنيين متوسط تحويلات المغتربين منهم فقط ٢٨ مليار دولار سنويًا.. هذا المبلغ أو أقل منه قليلًا أو كثيرًا يتم تحويله لمصر منذ منتصف السبعينيات حتى الآن.. اضرب متوسط عشرين مليار دولار فى خمسة وأربعين عامًا لتعرف كم مليار دولار دخلت مصر وأن ضخها فى عقارات وودائع بنوك ومشاريع وشاليهات.. لتعرف أن هناك مدخرات لدى الطبقة الوسطى المصرية.. هذا ملمح بسيط من ملامح الصورة، أحد الملامح الأخرى أن مصر سوق عملاقة، تستهلك الكثير جدًا، والطلب فيها دائمًا أكثر من العرض، هذا كفل لمن ينجح فى التجارة والصناعة فى مصر أرباحًا فوق خيالية على مدى سنوات طويلة، وهؤلاء بدورهم شرائح.. منهم الحيتان والمتوسطون، والصغار.. أنا لا أقول إن كل هذه الثروات تم استثمارها على النحو الصحيح طوال عقود وإلا لكنا فى مكان آخر، ولكن أقول إن الأصول موجودة، وإن هؤلاء هم الذين يملأون خزائن البنوك بالسيولة ويطاردون باعة الذهب حاليًا للشراء بأى سعر، ويبحث بعضهم عن الدولار لشرائه.. وبالتالى فإن من يروجون أن الصورة سوداء على طول الخط يمارسون التعميم والاجتزاء وتغيب عنهم المعلومات، وتغيب عنهم أيضًا حقيقة التنوع المصرى والتراكم الاقتصادى عبر العصور المختلفة، فى الناحية الأخرى فإن من يروج لأن «الناس معاها فلوس» يتناسى أن غياب خطط جادة للتنمية طوال عقود سابقة، وتلاشى مفهوم العدالة الاجتماعية منذ التسعينيات، قد أديا لزيادة عدد المصريين الأولى بالرعاية والمحتاجين ليد المساعدة كى تنمو مهاراتهم بشكل يمكنهم من نيل نصيبهم من الثروة القومية والمساهمة فى الإنتاج بشكل فعال، والمعنى أن لدينا فقراء بالفعل وهؤلاء لم تتركهم الدولة، ووجهت ١٢٧ مليارًا لمساعدتهم بطرق مختلفة فى الأسبوع الأخير فقط، وهذا أكبر دليل على وجودهم بالفعل واحتياجهم للمساعدة بالفعل، ويبقى أننا جميعًا فى حاجة إلى العمل أكثر من الكلام، وإلى التشاور حول تدابير تخفف وطء الأزمة علينا جميعًا وإلى حوار يجمع أكثر مما يفرق.. هذا طبعًا بعد استثناء الشامتين والحكماء بأثر رجعى.. وما أكثرهم فى هذه الأيام!