رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الكنيسة الكاثوليكية تُحي ذكرى القديس نيكولاس أوين.. فمن هو ؟

كنيسة
كنيسة

تٌحي الكنيسة الكاثوليكية، اليوم الثلاثاء، ذكرى القديس نيكولاس أوين، إذ روي الأب وليم عبد المسيح سعيد - الفرنسيسكاني، سيرته قائلاً: إن القديس نيكولاس أوين، المكرس العلماني، اليسوعي، صانع مخابئ الكهنة بإنجلترا الشهيد، فمنذ فترة حُكم الملك هنري الثامن (1509م – 1547م) لإنجلترا وخلافه مع الكنيسة الكاثوليكية بسبب عدم موافقتها على إتمام طلاقه من زوجته وتزويجه إحدى نساء البلاط الملكي بما لا يتفق مع الإنجيل، وعلى أثر ذلك قام الملك بفصل الكنيسة الكاثوليكية الإنجليزية عن وحدتها وشراكتها مع الكنيسة الكاثوليكية المسكونية وأسماها “كنيسة إنجلترا Church of England ”.

وتابع: ظلّت الكنيسة الإنجليزية تتقلب في أهوائها مع كل ملك جديد بحسب ميوله، إلى أن وصلت على عهد الملكة إليزابيث الأولى التي حكمت إنجلترا ما بين (1558م – 1603م) وهي تقريباً فترة حياة القديس نيكولاس أوين، قد أنشأت المذهب الأنـﭼليكاني (أو الأسقفي) وعلى عهدها تم إصدار مجموعة قوانين تسمى قانون العقوبات البريطاني، وهي قوانين تقيد حرية إتباع المواطنين للكنيسة الكاثوليكية وتعاقب كل من يأوي كهنة كاثوليك بعقوبات تصل إلى الموت، بدعوى الخيانة العظمى للملك "رئيس الكنيسة". 

مُضيفًا: وظلّ هذا القانون مرعياً حتى بعد وفاة إليزبث الأولى، وتولّي الملك ﭼـيمس الأول الحكم خلفاً لها حيث استشهد القديس نيكولاس بعد أن عاش ثلاث سنوات تحت حكمه، ووُلِد نيكولاس بأوكسفورد - إنجلترا عام 1562م، لعائلة كاثوليكية تقيّة، والده هو والتر أوين، يعمل نجّاراً ماهراً له شهرة كبيرة، وقد بدأ نيكولاس في التدرُّب على هذه الحرفة منذ أن كانب عمر الخامسة عشر، بينما صار اثنان من أشقاءه الكبار كهنة.

وتابع: نمىَ وَعي نيكولاس على إضطهاد الدولة للكاثوليك وحتى البروتستانت الغير مُنتمين للأنـﭼـليكانية (اللوثريين والكالـﭬـانيين) ، وتنفيذ أحكام الإعدام في مئات الأشخاص لا لشئ سوى لأنهم لا ينتمون للكنيسة الأنـﭼـليكانية التي يرأسها ملك أو ملكة انجلترا. 

مُستكملاً: ومع التنشئة الإيمانية التي كانت تتمتع بها الأسرة، تتلمذ على يد الأب إدموند كامبيون اليسوعي، إمتاز نيكولاس بشجاعته وعدم اكتراثه بالخطر، وقد بدأت تلتفت له أنظار الدولة عندما اعترض علناً بشجاعة على إعتقال الأب إدموند كامبيون وتعرضه للإهانة والمحاكمة الظالمة كمجرم لمجرد أنه كاهن كاثوليكي يخدم كاثوليك إنجلترا روحياً، فتم اعتقاله لأول مرة وظلّ قيد الاعتقال فترة غير قليلة، تم أثناءها إعدام الأب إدموند عام 1581 م.

 وخرج نيكولاس من المعتقل وقد بدأ يتتلمذ روحياً عن يد الأب هنري جارنت اليسوعي، لكنه ظلّ مهموماً الأخطار التي تطارد الكهنة الكاثوليك في إنجلترا، ومحاولات الدولة المستميتة والناجحة إلى حد كبير في إعتقالهم برغم التخفّي، حيث نشرت الدولة جواسيس اشتهروا باسم "صائدي الكهنة"، مهمتهم هي التجسُّس في كل مكان ومعرفة أماكن تجمُّع الكاثوليك لقداساتهم التي كانت تُصلّىَ عادةً في غرف تحت الأرض. 

وتابع: وعلى ذلك قرَّر نيكولاس استخدام موهبته الفريدة في النجارة، لحماية الكهنة من بطش الدولة، وإستمرار إمكانية ممارسة الحياة الكنسية الكاثوليكية، بإستغلال الإنشاء الحجري الخشبي للبيوت الإنجليزية القديمة في تخليق مخابئ خشبية صغيرة وضيقة وفي أماكن غير مرئية داخل بيوت العائلات الكاثوليكية، لإيواء الكهنة، بحيث يصعُب على قوات التفتيش الدوري لمنازل الكاثوليك ملاحظتها، استمرّ نيكولاس ينفذ هذا العمل في بيوت الكاثوليك بطول إنجلترا وعرضها تحت اسم مُستعار هو ﭼـون الصغير مدّة 18 عاماً (من 1588م إلى 1606 م) إستطاع خلالها حماية كهنة كثيرين ليستطيعوا خدمة الأسرار المقدسة وإرشاد المؤمنين روحياً باستمرار ودون انقطاع. وبرغم التكاليف الباهظة لهذه الإنشاءات والمجهود الذي كان يضطر لبذله منفرداً ليلاً وبدون مساعدين حتى لا ينكشف الأمر (من هدم بعض الأجزاء حجرية داخل البيت سوف تصبح فجوة المخبأ وتقفيلها بجدار خشبي رفيع غير لافت للنظر)، لم يكن نيكولاس يتقاضىَ سوى ثمن الخامات فقط وقد يُساهم على نفقته الشخصية أيضاً بحسب مقدرة كل أسرة. 

وتابع: قد يمكننا تخيُّل نيكولاس كشخص قوي وصحيح الجسم حتى يستطيع أداء كل هذا الأعمال الشاقة، لكن الواقع أن معاصيره وصفوه بأنه كان قصير القامة يُعاني فَتْقاً في جدار بطنه، كما أنه أعرج بسبب حادثة سقوط فرساً عليه وهو طفل!! لا يُعرف حتى الآن عدد المنازل التي خلَّق داخلها نيكولاس هذه المخابئ، وإن كان هناك عدد منها باقياً حتى اليوم كآثار في مدن وضواحي إنجليزية عديدة مثل كامبس، نورفولك، هارﭬـنجتون، كوتون هول، وسسترزير، ويُرجَّح أن بعض البيوت القديمة قد تحوي مخابئ أخرى لم يتم اكتشافها بعد بسبب براعة صانعها. خلال هذه الفترة وبرغم العمل الشاق في خدمة الكنيسة، لم تكن بطولات نيكولاس ومهاراته الخدمية تُلهيه عن حياته الروحية، فهو مداوم على الخلوات الروحية والقداسات وإجتماعات دراسة الكتاب المقدس لدرجة دفعت الأب هنري جارنت اليسوعي مرشده لقبوله كمُكَرَّس علماني في الرهبنة اليسوعية. 

مُضيفًا: عام 1594، تعرَّض نيكولاس للإعتقال للمرّة الثانية ليس لمعرفة الدولة بنشاطه الحقيقي ولكن ربّما لإنتشار خبر تكريسه، حيث قاموا بتعذيبه والتحقيق معه في محاولة لمعرفة أسماء وأماكن الكهنة الكاثوليك الذين يعرفهم ومن يساعدونهم من العائلات، لكنه لم ينطق بشئ، فأطلقوا سراحه بعد ان دفعت عائلة كاثوليكية ثرية مبلغاً كبيراً في مقابل إطلاق صراحه، وكذلك لإعتقادهم بأنه ليس شخصاً ذا أهمية، هو مجرد صديق لبعض الكهنة الكاثوليك لكنه لا يملك معلومات هامة. 

خرج نيكولاس من الإعتقال، وواصل عمله في تخليق مخابئ الكهنة، ويُقال أنه أيضاً كان المُدِّرب الرئيسي لعملية تحرير الأب ﭼـون ﭼـيرارد اليسوعي الشهيرة من مَحَبسه بقلعة برج لندن عام 1597م. 

في بدايات عام 1606، إكتشف الجواسيس إختراع نيكولاس المعماري لإيواء الكهنة، وذهبت قوة لإعتقاله للمرة الأخيرة، وقد سلَّم نفسه للقوات طواعيةً عندما لاحظ قدومهم لتفتيش المنطقة، ليبعد أنظارهم عن الأب هنري جارنت الذي كان مُختبئاً في مكان قريباً جداً، ويليه كاهن آخر مخبئه في منزل بنفس المنطقة وهي هندليپ هول الواقعة بورسترشاير..

اعتبرت الدولة إعتقال نيكورس هذه المرّة صيداً ثميناً بعد ما عرفته عن نشاطه وقدرته على إخفاء الكهنة طوال هذه السنين مما تسبَّب في بقا الكاثوليكية بإنجلترا بل وتنميتها.

مستكملاً:  قضى نيكولاس فترة من اعتقاله الأخير في سجن "مارشلسي" الواقع جنوب نهر التايمز، وهو سجن اشتهر بالقسوة في التعامل مع المعتقلين، ثم تم ترحيله إلى قلعة برج لندن المخيفة، حيث بدأت ألوان التعذيب الرهيب تحلّ على نيكولاس لإجباره على الكشف عن مخابئ الكهنة التي لا تُعد ولا تُحصى في بيوت الكاثوليك، والتي برغم التفتيش الدقيق إستعصىَ على القوات أن تجد إلا مخبأ او اثنين منها. رفض نيكولاس أن يُدلي بأي معلومات من شأنها المخاطرة بحياة الكهنة وتعرِّيض أصحاب المنازل لعقوبات شديدة قد تصل للإعدام أيضاً، رغم قسوة التعذيب بتعليق حجر ثقيل في قدميه ثم تقييد يديه وجذبهما ببكرة رافعة إلى سقف غرفة التعذيب، وبسبب كونه مصاباً بالفَتْق فقد انتفخت بطنه وانشقت ليموت شهيد حمايته لكهنة وعلمانيي الكنيسة الكاثوليكية المُضطَهَدة بإنجلترا في ليلة 1 إلى 2 مارس 1606م بعمر الرابعة والأربعين. يقول عنه مرشده الأب هنري جارنت: " يمكنني القول أنه ما من إنسان قد استطاع فعل الخير والحماية المباشرة لمئات البشر من كهنة وعلمانيي الكنيسة الجامعة العاملين بكَرْمة الرب في إنجلترا مثل نيكولاس أوين". 

مُختتمًا: جديراً بالذِكر أن الأب جارنت نفسه قد بعد شهرين من استشهاد أوين. تم إعلان نيكولاس أوين قديساً ضمن 40 شهيداً كاثوليكياً من إنجلترا وويلز عن يد البابا القديس بولس السادس عام 1970م. وعلى اسمه بُنيت كنيسة كاثوليكية في لانكشاير بإنجلترا، تعيِّد له الكنيسة الجامعة يوم 22 مارس، وهو شفيع النجارين، المعماريين، والهاربين من الإضطهاد.