رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

يسري الجندي.. المسافر الأخير فى قطار كبار الكتاب

يسري الجندي
يسري الجندي

لا يصح أن أسعى للجوائز ومَن يفعل ذلك يؤمن بأنه لا يستحقها فيزكى نفسه

حذّرت من «الإخوان» فى مسلسل «الخوارج» والعمل لم ير النور حتى الآن 

أتمنى تقديم مسلسل عن الشيخ زايد وأبحث عن مُنتج لـ«شجرة الدر» 

يمكن القول إن الكاتب الراحل يسرى الجندى هو آخر الراحلين من جيل الكبار، وهو العربة الأخيرة فى قطار كان يضم أسامة أنور عكاشة، ووحيد حامد، ومحفوظ عبدالرحمن، وهم جميعًا يتشابهون فى أنهم ينتمون لجيل الستينيات الأدبى، وفى أنهم كتاب أصحاب قضية يؤمنون بها، وموقف واضح من الإرهاب والفساد، ولسبب ما غاب الكاتب يسرى الجندى عن الظهور المكثف فى سنواته الأخيرة، وهو الغياب الذى استثنى منه جريدة الدستور، حيث أجرينا معه أربعة حوارات مطولة فى السنوات الخمس الأخيرة، اختصنا فيها ببعض أسراره مع الكتابة والحياة.. نستعرض بعضها فى السطور التالية.

هذه الأسرار تكشف جانبًا من مسيرة واحد من أساطير الكتابة المسرحية والدراما فى مصر والوطن العربى، فمن ينسى للراحل مسرحيات مثل: «ما حدث لليهودى التائه مع المسيح المنتظر»، و«بغل البلدية»، و«حكاية جحا مع الواد قُلّة»، و«على الزيبق»، و«حكاوى الزمان»، و«المحاكمة»، و«عنتر زمانه»، و«عنترة»، و«عاشق المداحين»، و«الهلالية»، و«رابعة العدوية»، و«حدث فى وادى الجن»، و«واقدساه»، و«دكتور زعتر»، و«سلطان زمانه»، و«الساحرة»، و«الإسكافى ملكًا».

ولم تقتصر مسيرة «الجندى»، الذى بدأ الكتابة فى أواخر الستينيات من القرن الماضى، على الأعمال المسرحية فقط، بل قدم أكثر من ٥٠ عملًا للسينما والتليفزيون والإذاعة، نذكر منها للتليفزيون: «عبدالله النديم»، و«نهاية العالم ليست غدًا»، و«أهلًا جدى العزيز»، و«على الزيبق»، و«مملوك فى الحارة»، و«المدينة والحصار»، و«على بابا»، و«قهوة المواردى»، و«السيرة الهلالية بأجزائها الثلاثة»، و«جمهورية زفتى»، و«التوأم»، و«سامحونى ماكنش قصدى»، و«جحا المصرى»، و«الطارق»، و«من أطلق الرصاص على هند علام؟».

وشَغل خلال مسيرته الحافلة العديد من المناصب فى وزارة الثقافة منذ ١٩٧٠، بداية من مدير مسرح «السامر»، ثم مدير الفرقة المركزية للثقافة الجماهيرية، ومستشار ثقافى لرئيس جهاز الثقافة الجماهيرية، ومدير عام المسرح فى الهيئة العامة لقصور الثقافة، وصولًا إلى مستشار رئيس الهيئة حتى إحالته للمعاش فى فبراير ٢٠٠٢.

بدأ مسيرته الفنية بتقليد نجيب الريحانى.. ولم يكن راضيًا عن «على الزيبق»

رأى الكاتب الراحل يسرى الجندى أن دمياط التى ولد بها وشهدت نشأته الأولى، هى المدينة التاريخية التى وهبته المعرفة، وهو ما عبر عنه فى أكثر من حوار سابق مع «الدستور» بقوله: «لها فضل كبير علىّ، فبذور فكرى نبتت هناك، فى ظل تميزها بثقافات غنية وكبيرة استثارت شخصًا مثلى، عن طريق احتكاكها مع حضارات مختلفة، مثل الشوام والإيطاليين واليونانيين».

وتذكر «الجندى» أنه ذهب إلى فريق التمثيل وقت أن كان طالبًا، وكانوا يستعدون لتمثيل الرواية الشهيرة: «ماكبث»، وبهدوء وبقدرة ورهان على موهبته قال لهم: «أريد أن أقدم شخصية (ماكبث)»، فنظر أحدهم إليه وتفحص فيه ثم قال له: «اجلس هنا وسنجد لك دورًا مناسبًا».

كان «الجندى» نحيف الجسد، وهذا ما أغاظه كثيرًا، فراح يبحث عمن يشبهونه، وبالفعل جمع مجموعة من النحفاء، وأَلّفَ أول عمل فى حياته، وقسم أدواره وأخرجه بنفسه، بل كان أحد أبطاله، لينجح فى فرض رؤيته واعتمادها، مع تأثره الكبير وقتها بقدرات نجيب الريحانى، الذى كان يقلده بشكل مميز جدًا.

لم ينته حلم يسرى الجندى عند هذا الحد، وكان يؤمن بقدرته على الوصول لما هو أبعد، ومن هنا وبعد أدائه الخدمة العسكرية انفتحت آفاقه، وكوّن فرقة مسرحية فى دمياط أطلق عليها اسم: «جماعة المسرح التجريبى»، قبل وقت طويل من انتشار مصطلح «المسرح التجريبى»، واستند فيها إلى الاطلاع على ثقافة المسرح، وأن يملأ أفقه بكل ما يمكن معرفته عن هذا العالم الفريد.

وبالفعل كتب مسرحية ومَثّلها مع زملاء له فى مدينة «رأس البر» للمصطافين هناك، لكنها لقيت فشلًا ذريعًا، لكن هذا الفشل كان سببًا لاستكمال المسيرة، ودافعًا قويًا لأن يجود من كتابته ورؤيته، صحيح أن التجربة كانت قاسية إلى حد أنه استلقى فى البيت مريضًا، لكنه من جهة أخرى تعلم منها الكثير، واستقر على نوعية الكتابة التى يمكن أن يتجه إليها، فكان قراره بالاتجاه إلى التراث الشعبى.

وبعد قدومه إلى القاهرة وعمله فى وزارة الثقافة، أصبح الجو مهيأ له ليكتب العديد من الأعمال التاريخية، ويستلهم التراث الشعبى ويدمجه فى الواقع، مع الحرص على عدم استنفاد الأعمال دفعة واحدة، فمثلًا لم يقدم «السيرة الهلالية» كعمل كامل إلا بعد أن استنفد شخصياتها فى أعمال كثيرة، فقدم فى البداية قصة «عزيزة ويونس»، ثم قصة «الجازية»، وفى الأخير قدم السيرة فى ثلاثية كاملة.

وكان يرى «السيرة الهلالية» تحكى العديد من الحكايات التى يتم إسقاطها على الواقع فيعرّيه، فهى كقصة تطرح قضية الكيان العربى، وتتشابه مع معطيات العصر الحديث، وهو ما سار عليه فى كل أعماله تقريبًا، التى كانت تراثًا شعبيًا برؤية عصرية، ومن هنا لم تفقد قيمتها وأثرها المرجو.

واعتبر أن «السيرة الهلالية»- التى عُرضت على المسرح فى عام ١٩٧٧- محرضة على الحكام وفسادهم، لكنه عند تقديمها للتليفزيون، ناقش فيها المتغيرات التى حدثت للشارع العربى، والشرخ الكبير بعد أحداث ١٩٩١ وحرب الخليج، وكانت شخصية «أبوزيد الهلالى» فى المسلسل مختلفة كثيرًا عن مثيلتها فى المسرح، لأنه جاء فى الدراما مُحبطًا تحيط به تحديات كبيرة تهدد أحلامه.

كذلك فعل فى «على الزيبق»، التى كان يراها مُحرضًا على المقاومة، مقاومة الواقع الاجتماعى تحديدًا، غير أنه لم يكن راضيًا عن المسلسل بسبب فقر الإنتاج.

قطاع الإنتاج رفض «الإسكافى ملكًا» بسبب الميزانية ثم قدم «زكية زكريا» بتكلفة أكبر

قدم يسرى الجندى العديد من الأعمال المسرحية وظل وفيًا للمسرح، على الرغم مما كان يلاقيه من صعاب، من بينها مسرحيته «ما حدث لليهودى التائه مع المسيح المنتظر»، فى ليلة «البروفة» الأخيرة لها.

ورغم إحساسه بأن المناخ أصبح رافضًا للكتابة الجادة فإنه لم يتوقف، وقدم خلال السبعينيات والثمانينيات أعمالًا مثل: «على الزيبق» و«رابعة العدوية»، وفى أعقاب الانتفاضة الأولى فى فلسطين، عُرضت له «الساحرة»، وكتب «الإسكافى ملكًا»، لكن رئيس القطاع رفض إنتاجه بحجة ضخامة الميزانية، على الرغم من أنه أنتج عملًا بعد ذلك تحت اسم: «زكية زكريا» بميزانية أضخم، وفق ما قاله «الجندى» لـ«الدستور».

بعدها توالت أعمال يسرى الجندى، ليسطر اسمه كواحد من أساطير الكتابة للمسرح والدراما، وظل اسمه لفترة كبيرة علامة تجارية يضمن معها المشاهد متعة وإلمامًا بمفردات التراث الشعبى والتاريخى، وتعامل كثيرون معه على أنه مرجع حقيقى.

كما أنه ناقش العديد من القضايا فى أعماله الدرامية، مثل مسلسلى: «نهاية العالم ليست غدًا» و«جمهورية زفتى»، وغيرهما من الأعمال التى جعلته فى مصاف المؤلفين الدراميين أيضًا.

ومع ازدياد موجة التطرف فى تسعينيات القرن الماضى، انتبه «الجندى» إلى ضرورة التحذير من هذا الخطر العظيم، رغم أن «التكفير» وقتها كانت التهمة الرائجة للكُتاب، مثلما حدث مع نجيب محفوظ وفرج فودة ونصر حامد أبوزيد وأحمد الشهاوى وغيرهم الكثير.

لكن صاحب «على الزيبق» لم يلق بالًا لكل ذلك، وسَن قلمه ليكتب مسلسل: «الخوارج»، الذى حذر فيه من خطر جماعة «الإخوان»، مشددًا على أن هذه الفئة تظهر فى كل عصر تضعف فيه الدولة، بدليل اختفائها تقريبًا فى عهد عمر بن عبدالعزيز، وهو ما يفعله «تنظيم حسن البنا».

وعندما قدم معالجة درامية لمسلسل «الخوارج» لعرضها على مجمع البحوث الإسلامية، اعتقد أنها ستحصل على الموافقة بسهولة، لكن المجمع رفض المسلسل، رغم أنه كان يتنبأ بكل ما يفعله «الإخوان» حاليًا، وبعدها قرر التوقف عن الكتابة فى هذه المنطقة، لأن المسلسل لم يُعرض حتى الآن!

وليسرى الجندى قناعات خاصة به، فقد كان يرى أنه لا يصح أن يتقدم للجوائز بنفسه، لكن الجوائز هى التى ترى مستحقها، معتبرًا أن «من يسعَ إلى الجائزة يرَ عن قناعة أنه لا يستحقها فيزكى نفسه»، لهذا لم يسع إلى أى منها.

وبعد عرض مسلسله «السيرة الهلالية» وفوزه بكثير من الجوائز، لم يكن راضيًا، وقال فى حينها: «لن أسعى للجوائز أبدًا، ولن أقدم للحصول على جائزة»، وحتى جوائز التفوق وغيرها التى حصل عليها لم يسع إليها، وفى عام ٢٠٠٥ كان قاب قوسين أو أدنى من التتويج بجائزة الدولة التقديرية، لكنه لم يحصل عليها، ولم يحزنه ذلك.

وقضى يسرى الجندى أيامه مشغولًا بالكتابة ولم يتوقف عنها، على الرغم من ابتعاد المنتجين عنه فى أواخر أيامه، وإيمانه القوى بأنه لم يعد أى من المنتجين ينظر إلى الأعمال التاريخية التى تتطرق للتراث الشعبى، بسبب غياب قطاع الإنتاج الذى كان ينتج مثل هذه الأعمال، لصالح شركات إنتاج حالية تنظر للتكلفة أولًا.

وأبدى حزنه الكبير على غياب معظم هذه النوعيات عن ساحة الدراما، وظهور مسلسلات «تتناول الواقع من زاوية الواقع»، وهو الأمر الذى يجعل القرى والنجوع ساحات للديكورات وغيرها، ما يعنى تكلفة أقل بكثير، ما تسبب بالتبعية فى غياب كُتاب هذه النوعية من الدراما.

وبرغم هذا كله، كان «الجندى» يكتب حتى أيامه الأخيرة، وفى درج مكتبه العديد من السيناريوهات الجاهزة، مثل مسلسل «شجرة الدر»، الذى كان يبحث له عن مُنتج، كما كان يتمنى تقديم عمل درامى يبرز مكارم الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، أول رئيس لدولة الإمارات العربية المتحدة.

وتبقى مشكلة يسرى الجندى هى مشكلة جيل بأكمله، توارى وانسحب بعد أن مهّد الأرض ليخطو بثقة من يأتون بعده، لكن غيابه وآخرين مثل فيصل ندا لم يكن عن عمد، كما ذكر، مرجعًا ذلك إلى «تغير الحال وظهور نوعيات جديدة من الأعمال الدرامية تتطلب لكتابتها مواكبة للأحداث».

وحين تطرق للجيل الجديد فى حواراته مع «الدستور»، ذكرهم بكل خير، وأثنى على موهبة عبدالرحيم كمال تحديدًا.