مسئولية القلم

تعلمت من أساتذتنا الأفاضل قديمًا في كلية الهندسة بالقسم المدني أن خطأ الطبيب قد يودي بحياة فرد واحد مريض.. لكن خطأ المهندس (وهو يحسب الأحمال الحية والميتة dead & live loads) لأحد الكباري أو لناطحة سحاب أو لأي منشأ سكني أو إداري سوف يودي بحياة المئات من الأشخاص الأصحاء الأبرياء.
وخوفًا من ذلك كنت أتأني كثيرًا وأعيد وأراجع حساباتي التصميمية مرات عديدة بمنتهي الدقة لأتأكد من صحتها قبل أن أضعها في حيز التنفيذ.
وأتذكر وأنا طالب أنني قدمت النوتة الحسابية لأستاذ مادة الخرسانة المسلحة في تصميم أحد الكباري بدقة متناهية وصلت إلي أقرب خمسة أرقام عشرية.. وتوقعت منه الإشاده بدقة الأرقام  فما كان من أستاذي (رحمه الله) إلا أن نهرني بلهجته الصعيدية المحببة قائلًا: يا فندي هو أنت بتبيع دهب عشان تحسبلي الأحمال بالجرام؟ يعني لو واحد شال كيلو جوافة ومشي ع الكوبري يقع؟ حساباتك دي تزود عليها ٢٠% وتسميهم معامل الجهل (factor of ignorance) ومش عاوز أشوف أرقام عشرية خالص.
ولم أنس يومًا نصيحة أستاذي.. مهما كانت دقة حساباتي لابد من إضافة (معامل الجهل) في النهاية فلربما كان هناك سهو غير متعمد يودي بحياة المئات أو يصيبهم بالضرر علي أسوأ تقدير.
ومضي بي قطار العمر وهو يمر علي محطات عديدة حتي وصلت للمحطة الأخيرة (المعاش) وقررت ملء أوقات فراغي بكتابة مقالات متنوعة لبعض الصحف.. لأكتشف أن خطورة القلم أكثر بكثير من خطورة الخطأ في التصميم الإنشائي.. لأنه إذا حاد عن الحق وعن أمانة الكلمة فالضحايا من القراء الذين أولوني ثقتهم ستكون بالآلاف.. فوجدتني أمزق العديد من كتاباتي لمجرد شكي في صحة الخبر أو أهواء المصدر.
حدث ذلك لي أخيرًا وأنا أكتب تعقيبًا علي التسريب الذي تم من بعض الهاكرز لأحد البنوك السويسرية لأرصدة رجال أعمال وشخصيات مهمة حول العالم، وسارع ملك الأردن بشرح أن هذا المبلغ صحيح وتم تحصيله من بيع بعض طائرات والده الخاصة.. كما سارع محامي أبناء رئيس سابق بالإفصاح بأن موكليه أبلغوا الدولة بكل أرصدتهم بشفافية وليس هناك ما يخفونه، لكني توقفت مصدومًا عند اسم شخصية مخابراتية توفاها الله نكن لها جميعًا كل الاحترام ولم أصدق وجود اسمه مع هؤلاء فذمته المالية فوق الشبهات، وزاد من شكوكي تناول قنوات الإخوان الخبر بشماتة وسفالة، سارعت بالاتصال ببعض الأصدقاء المقربين والموثوق بهم فتبينت صدق حدسي وبراءة الرجل تمامًا.. شطبت كل ما كتبت ودعوت له بالمغفرة والرحمة.