رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المشاغب العبقري.. كيف حمل بيرم التونسى المعجون بـ«الفصحى» لواء شعر العامية المصرية؟

عندما شرعت فى الكتابة عن بيرم التونسى، أول سؤال قفز إلى رأسى هو: هل بيرم التونسى هو الأب الشرعى لقصيدة العامية المصرية؟

وللإجابة عن هذا السؤال لا بد بداية من التفرقة النوعية بين الزجل وقصيدة العامية.

فالزجل يعتمد على المباشرة فى معالجة موضوعاته، التى تنتمى دائمًا إلى دائرة النقد الاجتماعى، ويحرص على أن يحتفظ من عناصر الشعرية التقليدية بالوزن والقافية فقط.

أما قصيدة العامية، فتكتمل فيها عناصر الشعرية. فإلى جوار الوزن والقافية نجد الاهتمام الواضح بالصورة، والعوالم والحالات الشعرية، والإيقاع، والرموز الفنية، والتشكيلات الجمالية، والرؤى الفكرية.

وبوسعنا أن ننظر إلى بيرم التونسى فى ضوء هذه التفرقة أولًا، بالإضافة إلى وجهة نظر كبار شعراء العامية فى إنتاجه الإبداعى عمومًا ثانيًا.

لا شك فى أن بيرم التونسى هو زعيم الزجل دون منازع، وسنكتفى للتدليل على هذا بنموذجين شهيرين؛ الأول يقول فيه:

يا شرق فيك جو منور

والفكر ظلام

وفيك حرارة يا خسارة

وبرود أجسام

فيك ربع ميت مليون زلمة

لكن أغنام

لا بالمسيح عرفوا مقامهم

ولا بالإسلام

وأهم ما يلاحظ فى النموذج السابق أن الشاعر قد صاغ مقطعه معتمدًا على بنية المفارقة، لكن عبقريته المبدعة جعلته يتفنن فى أشكالها المتنوعة، بداية من التقابل اللغوى الصريح بين النور والظلام، والحرارة والبرودة. 

ومرورًا بالمقابلة الضمنية بين البشر والأغنام اعتمادًا على امتلاك كل منهما أو عدم امتلاكه لـ«الفكر/ العقل». ووصولًا إلى المقابلة الظاهرية المتوهمة التى يحرص على دحضها بين المسيحية والإسلام، فكلاهما دين سماوى يهدف إلى إشاعة مكارم الأخلاق، وكلاهما لم يستطع تقويم سلوكهم.

أما الملاحظة الثانية، فتتمثل فى أن اهتمام الشاعر ليس اهتمامًا مصريًا إقليميًا فقط كما يُشاع عن الأدب المكتوب بالعامية عمومًا، لكنه اهتمام عربى عام، وربما تجلى هذا بصورة أكبر فى النص الآخر، حيث يقول:

وليه ولاد العرب/ فى الأرض منكوسة

طول عمرها والسبب/ إحسان ونفوسة

والله إللى قال ما كدب/ نسوانا موكوسة

حتى إللى متعلمين/ بردون يا شعراوى

جهل النسا بالعلوم/ خلانا أنتيكة

نفهم فى فن الهدوم/ رقعة وتشتيكة

وفى البلد عالعموم/ ما تلقى فابريكة

غير فابريكات الطحين/ فليحيا بدراوى

إن كانت أم الولد/ فى الزار بتتبخر

تجيب حمار للبلد/ فى القطن يتسخر

قبل الحمير يتجلد/ لو مل واتأخر

وسيد الشغالين/ هو الأروباوى

فالشاعر مهموم بتقدم الوطن العربى وتحرره كله، ويرى أن ابتعاد المرأة عن التعليم وانغماسها فى الخرافة، يحول دون تقدم الصناعة، وتملك مقدرات الزراعة، وتحرر الأوطان. فقد أوضح لنا بيرم ساخرًا فى بساطة بالغة وبليغة فى آن، أن:

الأم مدرسة إذا أعددتها/ أعددت شعبًا طيب الأعراق

وأنه لا أمل فى شباب الوطن ومستقبله بالتالى، ما لم تكن هناك أمهات قادرات على تربية الأبناء تربية سليمة.

على أن بيرم قد تفوق فى رؤيته النقدية التقدمية للمجتمع على شاعر النيل، لأنه بموضوعية شديدة قبل أن يصب غضبه على المرأة العربية، أرجع سر تخلفها فى بداية القصيدة إلى سطوة الرجل وقهره لها، فقد بدأ بتوبيخ الرجال أولًا، حيث قال:

غلبت أقول للرجال/ خلو المرة حرة

تخش رخره المجال/ تفهم وتدرى

العاقلة بنت الحلال/ ما يضرهاش بره

لكن بتنصح فى مين؟/ روس جامدة سنطاوى

وإن كان حافظ إبراهيم أيضًا قد طالب بالأمر ذاته فى القصيدة نفسها، فى أبيات تالية دخلت فى دائرة التعتيم، لأنها طالبت بقدر محدود من حرية المرأة، حيث يقول:

ليست نساؤكم أثاثًا يقتنى/ فى الدور بين مخادع وطباق

تتشكل الأزمان فى أدوارها/ دولاً وهن على الجمود بواقى

فتوسطوا فى الحالتين وأنصفوا/ فالشر فى التقييد والإطلاق

ربوا البنات على الفضيلة إنها/ فى الموقفين لهن خير وثاق

على أن علاقة بيرم التونسى نفسه بالإبداع الفصيح علاقة وطيدة، فمن لا يذكر قصيدته الشهيرة فى هجاء «المجلس البلدى»

 التى كتبها عام ١٩١٩، ويقول فيها على سبيل المثال:

هو الذى لم يدع فى الأرض شاردة

كلا ولا رطبة فيها وجامدة

إلا وكانت على التحصيل شاهدة

يا بائع الخبز بالمليم واحدة

كم للعيال وكم للمجلس البلدى

قد كنت فى المال والأولاد أشركه

وقد قلانى لسر لست أدركه

فإن رأيت ظلامًا لست أسلكه

وإن جلست فجيبى لست أتركه

خوف اللصوص وخوف المجلس البلدى

كما أن له تجربة رائعة ومتفردة فى كتابة المقامات، وقد صدرت هذه المقامات فى كتاب مستقل عن مكتبة مدبولى عام ١٩٧٣، وقد جمعها وحققها وقدم لها طاهر أبوفاشا، فى كتاب يضم ٤٥ مقامة مكتوبة باللغة الفصحى بالطبع. وتجمع مقامات بيرم بين المهارة اللغوية الفذة، وخفة الظل اللافتة، والسخرية اللاذعة.

ويرى أبوفاشا فى مقدمتها أن ثقافة بيرم الواسعة، وإلمامه العميق بالتراث العربى، وتمكنه من كتابة الشعر باللغة العربية الفصحى، قد ساعدته على إحياء هذا الفن المندثر، حيث يقول: «جاء بيرم وقد أصبحت المقامة كالعملة القديمة تحمل قيمًا تاريخية، ولكن لا يتعامل بها. فاستطاع أن يبعث فيها الحياة، وقدم نماذج لما يجب أن تكونه المقامة فى عصر لا يتحمل معاظلات البديع والحريرى واليازجى».

وربما كان من المقامات الطريفة التى يمكننا التمثيل بها هنا «المقامة البيجامية»، حيث سافر أحد المشايخ فى بعثة إلى باريس، وسكن فى بنسيون، فلما جاء المساء وجد صاحبة البنسيون تجلس أمامه فى الصالون ترتدى بيجامة وتضع ساقًا على ساق، فظنها تسخر منه، فهرع إلى سكرتير السفارة ليسأله:

هل تلبس النسوان فى خلواتها/ لبس الرجال ومثلهم تتقمط؟!

أبصرت ربة منزلى وثيابها/ مثلى ومثلك، أم ترانى أغلط؟!

فقال: وما هذا اللباس؟ فقلت:

هو بنطلونٌ فوقه جاكتةٌ/ مفتوحةٌ منها النهود تلعلط

فابتسم. فقلت:

أفكان سخرًا ذاك أم هى عادةٌ/ قل لى فعقلى منذ ذاك ملخبط

فضحك وقال: هذه بيجامة. فقلت:

إن كان هذا فالبجامة شكلها/ فى مذهبى، شكل يسر ويبسط

فقال: هل أعجبتك؟ فقلت:

لفاء كالتمثال حتى خلتها من/ مقلتى- لا من يدى- تتزفلط

فقال: دعنا من ذلك، واسمع ما جرى هنالك.

لقد جاء أربعة من الطلبة يسألون عنك، ولا أدرى ماذا يريدون منك، يقول أحدهم إنه من إنشاص، ويقول الثانى إنه نجل عمدة دماص، والاثنان الآخران يقولان إنهما من أبناء الأعيان. فلما رأيتهم إخوانك، أعطيتهم عنوانك، وكأنى بهم الآن فى دارك، جالسين فى انتظارك.

قال: فانطلقت كالسهم، بوجه جهم، لأطرد هؤلاء الضيوف بالمعروف أو بالمتلوف، لأن أبناء العمد، ومشايخ البلد، إذا أبصروا مثل هذه «المدامة»، فى هذه البيجامة، فلن يخرجوا إلا يوم القيامة.

ومع ذلك، ومن قبيل الاحتياط، كتبت على الباب ما هو آت:

يا أىُّ هذا الزائرى: لست هنا

وذا الذى تقرؤه خطى أنا

فلا تدق الباب جنبت العنا

واذهب ذهبت شاكرًا أو لاعنًا

ليست أوروبا مثل كفرالبلينا

وبمناسبة علاقة بيرم بالفصحى؛ فإن القصيدة الوحيدة التى كتبها فؤاد قاعود عن بيرم التونسى كانت باللغة العربية الفصحى أيضًا، وقد بلغت أربعين بيتًا، وقد وصفه فيها بشاعر الشعب، وهو يقول فى مطلعها:

كيف ترقى رقيك الشعراء/ أعيت الأرضَ قبل ذاك السماءُ

مرهف الشعر ما يصيبُ فيصمى/ مفصلَ الزيف حيث عم الرياء

ويهز العروش بالمنطق السهل/ فيصغى لهديه البسطاء

وقد كتب قاعود هذه القصيدة عام ١٩٨٢ بمناسبة الاحتفال بمرور خمسين سنة على وفاة حافظ وشوقى، فقد ماتا عام ١٩٣٢ الأول فى مايو والآخر فى أكتوبر، مؤكدًا أحقية بيرم التونسى فى الاحتفاء بمنجزه الشعرى أيضًا، ومدافعًا عن الكتابة بالعامية، ومثبتًا بقصيدته هذه أن اختيار الكتابة بالعامية توجه فنى أيديولوجى، وليس عجزًا عن الكتابة بالفصحى، وقد قال فى نهايتها:

ليس فى قول أهل مصر دخيل/ ساء ما أرجف الدعاة وساءوا

ليس إلا قراءة أنبتتها/ رقة النيل.. عذبة سمحاء

والكتاب الكريم سفر وحيد/ ولديه تبايَنَ القراء

وفؤاد قاعود واحد من أبرز ورثة بيرم التونسى، فله إنتاج غزير من الزجل يتجاوز نصف كتابته الإبداعية، وإن كانت قصائده العامية أقرب لأشعار المثقفين، وأبعد ما تكون عن روح بيرم.

أما وريثه الشرعى من وجهة نظرى المتواضعة، الذى استطاع أن يمزج فى قصيدته بين الزجل والشعر فى نسيج واحد جديد ومغاير، تتجلى فيه شخصية ابن البلد الواعى، وتسيطر عليه روح الفكاهة والسخرية وخفة الظل؛ فهو الشاعر أحمد فؤاد نجم. وأذكر أنه قبيل وفاته مباشرة قد طلب منى أن أبحث له عن نسخة من أعمال بيرم التونسى الكاملة «التى أشرف على جمعها رشدى صالح، ورسمها الفنان محمد قطب، وصدرت عن هيئة الكتاب عام ١٩٧٥. ثم أعادت الهيئة تصويرها كما هى وطبعتها مرة أخرى عام ٢٠١١». فقلت له: وحشك بيرم يا عم أحمد وعايز تقراه؟ فقال: لا، أنا عايز أصلح لك النسخة، عشان تنشرها تانى سليمة، لأن فيها غلطات كتير، وأنا حافظ شغله كله حرف حرف. فقلت له: كله يا عم أحمد؟ فقال: كله، أكتر من اسمى.

على أن عبقرية بيرم الشعرية قد استطاعت أن تتجاوز حدود الزجل لتحلق فى فضاء الشعر وصوره الملهمة، وبخاصة فى أغنياته التى كتبها لأم كلثوم، فمن منا يستطيع أن ينسى مثلًا تلك الصورة المبدعة فى أغنية «القلب يعشق كل جميل»:

قرن ونصف على ميلاد حافظ إبراهيم... صرخة حياة ونيل يكتبان لمصر شعرها القومي  | اندبندنت عربية

فوقنا حمام الحمى

عدد نجوم السما

طاير علينا يطوف

ألوف تتابع ألوف

أو تلك الافتتاحية المبهرة من الشعر الخالص لأغنية «شمس الأصيل»:

شمس الأصيل دهبت خوص النخيل

تحفة ومتصورة على صفحتك يا جميل

والناى على الشط غنى والقدود بتميل

على هبوب الهوا لما يمر عليل

إنها صورة كلية بالغة التفرد والإبداع للحظة غروب الشمس على ضفاف النيل، حيث تتمايل جذوع النخيل راقصة على صوت الناى بفعل النسيم العليل، ويتألق خوص النخل المذهب بفعل أشعة الشمس، وينعكس هذا المشهد كله على صفحة النيل الصافية الرقراقة الراقصة أيضًا فى عرس الطبيعة المصرية الساحرة.

وإذا كنت قد التقطت هذا المقطع تحديدًا بحس الناقد، فقد هالنى عندما بحثت عن ما كتبه فؤاد حداد عن بيرم التونسى، أن يكون هذا المقطع تحديدًا هو ما تحدث عنه فى مفتتح قصيدته الوحيدة التى كتبها عنه، حيث يقول:

يا عم بيرم أقول وأنشد على ضيك

مين اللى زيك صاحب الكنز الأصيل

مغنى شمس الأصيل

القافية بتطاوع معاه والنيل

والفكر بيطاوع

ولا عمر كلمة بتلاوع

مين اللى زيك يجيب الخوص فى أغنية؟

وهذا يدل على أن علاقة فؤاد حداد بأبيه بيرم التونسى كانت مؤسسة فى المقام الأول على رؤية نقدية واعية، تطمح فى إقامة قطيعة إبداعية مع حدود الزجل، للتحليق فى أفق القصيدة العامية.

ويؤكد هذه النظرة النقدية الواعية الشاملة من حداد لإنجاز بيرم، إشارته إلى استخدامه كلمة «الخوص» العامية التداولية شبه المبتذلة، «وليس السعف مثلًا، كما قال سمير عبدالباقى: شيلنا سعف النخل/ شيلنا فانوس رمضان» فى صورة شعرية فذة، وكذلك تعمد حداد الإشارة فى قصيدته إلى مقامات بيرم أيضًا، حيث يقول:

في ذكري وفاته .. شاهد كيف غير بيرم التونسي من نمط أغنيات أم | مصراوى
بيرم التونسي

خمسين مقامه..

ما فيش أنزه من كده ولا أجمل

عندك مثل آخر عن الحلو يكمل

دا عم بيرم يا أخى فتأمل

كما يؤكدها أيضًا حرصه البالغ على توضيح النقاط المحددة التى حرص على وراثتها عن بيرم بعيدًا عن فن الزجل، وهى أمور تتعلق فى المقام الأول بالاختيار اللغوى والاتجاه الأيديولوجى، حيث يقول: 

هو اللى سابق فى مجال الميدان

هو اللى رافع للحوارى ديوان

هو اللى قايل قبل هذا الأوان

الفلاحين والشعب عين أعيان

أما الشاعر صلاح جاهين، فقد تجلت محبته البالغة لبيرم التونسى فى قصيدة رثائه له «بكائية لبيرم التونسى»، التى تعد من عيون قصائد الرثاء عمومًا، ويقول فى مطلعها:

جاية عروس الشعر م البغالة                

بملاية لف وكعب متحنى

شافت صوان وحبال وناس شغالة

وأنا بابكى جنب الباب ومستنى

والشمس تقطر حزن ع الصبحية

مين إللى مات يا شب يا بو دموع

قالت عروس الشعر للموجوع

مين إللى مات يا شب قل لى يا أخويا

قالت عروس الشعر.. ليكون أبويا

أنا قلت أبونا كلنا يا صبية

أحمد شوقي.. أمير الشعراء وصوت الحرية وقلم الثورة

لقد صنع جاهين فى المقطعين السابقين دراما شعرية حقيقية تفوح منها رائحة الحارة المصرية التى تشربها بيرم بعينيه وقلبه، وأعاد إنتاجها فى قصائده بصورة أكثر حميمية وأشد إبهارًا. فها هى ذى بنت البلد تقفز إلى نص جاهين من قصيدة بيرم التى صورتها بالملاية اللف:

بنت البلد يا ولد ما أحلى قيافتها

هليود على بدعها تحلف بعصبتها

ولا بنات لندن روخرين يتلفوا لفتها

والخياطين فى باريس تحسد ملايتها

لو تطوّلها أو تقصرها أو تحبكها أو تخنصرها

يسحر الدنيا حسن منظرها

لكن المقام هنا ليس مقام القيافة والدلال والغزل، بل مقام لهفة البنت عروس الشعر على أبيها الشيخ، التى تحولت إلى حزن فاجع، باعتراف جاهين بأن الذى مات هو أبوالشعراء جميعًا:

مات زى ما كتف الجبل ينهد

مات باقتدار وفخار ما قلش لحد

بيرم.. ومات ماشى ف طريق الجد

وجنازته ماشية أهه فى شارع السد

والنعش عايم فى الدموع فى عينيا

إن موت بيرم التونسى كان موتًا شامخًا مدويًا يليق به، وقد كانت صورة نعشه تعوم فى بحر دموع صلاح جاهين حقيقة لا مجازًا. ويظهر هذا الاضطراب بوضوح فى اختلاف نظام القوافى بالمقاطع الثلاثة السابقة.

ففى المقطع الأول تتماثل قوافى الأبيات الأول والثانى، والثالث والرابع. بينما فى المقطع الثانى تتماثل قوافى الأبيات الأول والثالث، والثانى والرابع. وفى المقطع الثالث تتماثل قوافى الأبيات الأربعة الأولى كلها.

إنه اضطراب المشاعر وهيمنة الحزن فى لحظة فاجعة وصادقة تتجاوز حدود الاهتمام بالشكل، وهو يحسب للقصيدة لا عليها، وبخاصة أن جاهين قد أغلق المقاطع جميعها ببيت خامس موحد القافية فى القصيدة كلها، وقد قال فى ختامها:

دا قبر دا.. ولا كمان منفى

طالع عليه الشوك والحلفا

دا قبر دا.. ولا كمان تبعيدة

حدفوه عليها كلمتين فى قصيدة

بيرم.. فتحت ديوانه رد عليا

فإذا كان الموت هو النهاية الحتمية لكل إنسان؛ فإن الإبداع المتميز هو طريقه للخلود. فها نحن بعد كل هذه السنوات من رحيل بيرم التونسى الذى توفى فى ٥ يناير عام ١٩٦١، نفتح ديوانه فيحاورنا ويرد علينا.