رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

التقاعد.. ثواب أم عقاب؟

العقلاء يجزمون أن العمر مجرد رقم لا معني له، فالبعض يتجاوز التسعين وقلبه وعقله في حالة شباب دائم رغم تجاعيد الوجه والإسراف التي يخفيها ببراعة جمال روحه وابتسامة الرضا على شفتيه، والبعض رغم شبابه يضع على كاهله كل هموم دنياه، فتشيب روحه قبل الأوان وتتكالب عليه الأمراض ويلازمه العبوس حتى نهاية مشواره.
أنا أؤمن تمامًا بأن رحلة الحياة يظهر جمالها بعد سن التقاعد، وثقافة المجتمع تحدد بوضوح خطواتك فور وصولك لهذه السن ولك الاختيار.

البعض يختار التقوقع والاكتئاب والاستعداد للرحيل فتتوالى عليه الأمراض ويعيش مهملًا وربما وحيدًا يجتر ذكرياته حتى الموت، والبعض الآخر ينتبه بأنه تخلص من الكثير من التزاماته تجاه أسرته وعليه أن يستمتع بما تبقى له من وقت ليسافر ويقرأ ويصلي دون أي قيود عمل أو هموم أسرية.

قد يتهمني القارئ بإمعاني في التفاؤل، فالموظف البسيط ليس لديه رفاهية الاستمتاع بحياته بعد التقاعد، فمكافأة نهاية الخدمة ضاعت في سداد ديونه الناتجة عن أقساط مصاريف زواج أبنائه، ومعاشه الشهري لا يكفي مصاريفه الأساسية من مأكل ومشرب وملبس ومسكن، ناهيك عن مصاريف العلاج والأطباء، ولهم كل الحق، لكن الحلول موجودة وعليهم دور كبير في الوصول لها.

أعرف الكثير من الأصدقاء يمتلكون الخبرة والطاقة بعد تجاوزهم سن التقاعد وهم قادرون على العطاء عشر سنوات أخرى لكنهم اختاروا للأسف طريق التقوقع والاكتئاب.
أتذكر منذ فترة كنت قد قمت بزيارة لخالي الطبيب في ولاية ماسوشيتس بالولايات المتحدة الأمريكية، ولاحظت أن مكتبته الخاصة تحتوي «دون مبالغة» على مئات الكتب عن مصر، فسألته باندهاش: هل قرأت كل هذه الكتب؟
فكان رده: بالطبع لا.. سأقرأها بعد التقاعد.
ابتسمت لخالي الذي تجاوز سن الرابعة والثمانين متسائلًا: ومتي ستتقاعد، من في عمرك تقاعدوا في مصر منذ 24 عامًا على الأقل؟.
فقال لي بحزم: سأتقاعد بمجرد شعوري باهتزاز المشرط في يدي.

تأمل عزيزي القارئ وجوه السواح عند نزولهم من أي قافلة سياحية في الأهرام أو الأقصر أو أسوان أو أي بقعة سياحية في مصر، ستلاحظ أن معظمهم من كبار السن من 60 إلى 90 عامًا، إنها ثقافة مجتمعية أتمني أن نصل إليها في جمهوريتنا الجديدة، الأمر ليس مستحيلًا والدولة عليها الدور الأكبر في استغلال طاقات وخبرات المتقاعدين بعمل مشروعات صغيرة لهم مع تجنيبهم مشقة الانتقالات والزحام والمجهود الجسدي «مشروعات أون لاين»، مع العمل على رفع المعاشات لتوفير الحياة الكريمة التي يستحقونها وفاءً لما بذلوه طيلة فترة عملهم.
وعلى المتقاعد أن يطور من نفسه باستخدام طاقاته وإمكانياته وتفاؤله للاستمتاع بالوقت القليل الباقي قبل ملاقاة ربه.