رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«عصفور المجذوب» والعقل الشعبى «المنجذب»

أبطال من نوع مدهش اخترعهم العقل الشعبى المصرى وربط قيمتهم ومقامهم بالدين، إنهم أبطال عالم المجاذيب.. فمصر القرن التاسع عشر كانت ترفع مَنْ فقدوا عقلهم أو مسّهم الجنون إلى مقام الولاية، ولا يخفى ما بين «الجنون» و«الجن» من علاقة، فالمجنون فى زمن ماضٍ كان يُنظر إليه كشخص مسّه «الجن» وأصابه «الجنون».

فى شوارع القاهرة فى ذلك الزمان، وكذلك فى دروب قرى مصر وكفورها، كان المجانين يمرحون فى حرية كاملة، بل يعاملون بأعلى درجات التبجيل والإكرام، ويُنظر إليهم على أنهم من أولياء الله، ممن كُتب عليهم أن يكون عقلهم فى السماء وأجسادهم على الأرض.. أذكر أننى حكيت لك طرفًا من الأفعال الشاذة وغير الطبيعية لأمثال هؤلاء، فبعضهم كان لا يرتاح إلا إذا خلع ملابسه كاملة وسار بين الناس كيوم ولدته أمه، وبعضهم كان يحمل فى يده «جريدة» أو عصا يضرب بها من شاء من عباد الله وإمائه، ولم يكن المضروب يغضب أو يضجر بل كان يفرح بالبركة التى أصابته، وقد تقيم أوضاع حياته بعد اعوجاج.

يشير «وليم لين»، فى كتابه «المصريون المحدثون»، إلى أن المصريين كانوا يعدون من أصابه الجنون وليًا، خصوصًا إذا لم يكن جنونه خطرًا، ومهما ارتكب الولى المجذوب من الخطايا فهى لا تؤثر على قداسته، إذ تعتبر نتيجة تجرد عقله من الأشياء الدنيوية، فروحه أو قواه كلها مستغرقة فى التقوى، ولذلك تترك شهواته بلا رقيب، ويستطرد «لين»: أغلب أولياء مصر- ممن شاهدتهم أوائل القرن التاسع عشر- معتوهون أو بُلهٌ خداعون، ويسير بعضهم عراة تقريبًا، ويتمتعون باحترام زائد، بحيث إن النساء بدلًا من تجنبهم يتكبدن أحيانًا الكثير من تصرفاتهم الشاذة فى الطريق العام، ولا يشعر العامة بأى عار فى هذه الأعمال.

كان الوضع فى القرى المصرية أسوأ، فكل قرية كان لها «مجذوب» يطلق عليه مجذوب القرية أو «عبيطها».. مشهد «المجذوب» كان جزءًا لا يتجزأ من الروايات التى حكت حال القرى فى مصر أوائل القرن العشرين، وهى الحال التى تجد جذورها فى القرن التاسع عشر، يمكنك أن تراجع رواية «يوميات نائب فى الأرياف» للعظيم توفيق الحكيم، وتتأمل واحدة من شخصياتها المحورية، وهى شخصية «عصفور المجذوب».

كان «المجذوب» رجلًا- كما يصفه الحكيم- يستمد أهل القرية منه البركة، وإشاراته للمستقبل، وقدرته على حل الألغاز، بما فى ذلك الجرائم، وقد عرفه بطل الرواية مع أول جريمة ذهب للتحقيق فيها، حين نادى عليه معاون القسم طالبًا منه الصعود إلى البوكس ليحضر معهم المعاينة والتحقيق، ويكشف لهم عن المجرم فى النهاية.. «كان الشيخ عصفور رجلًا عجيبًا يهيم على وجهه بالليل والنهار لا يعرف النوم، يغنى عين الأغنية، ويلفظ كلمات، ويلقى تنبؤات، يصغى إليها الناس».

تستطيع أن تجد نماذج أخرى لمجاذيب ظهروا فى روايات أخرى عديدة تتشابه مع نموذج «الشيخ عصفور»، تصف حال هذه الفئة من الناس داخل القرى، ويكاد يكون نجيب محفوظ الوحيد الذى قدم نموذجًا مختلفًا لشخصية المجذوب ذى الصبغة القاهرية، وذلك فى روايته «زقاق المدق».. ومجذوب «الزقاق» لم يكن نكرة كما هو حال مجاذيب القرية، بل كان فيما سبق معلمًا وقورًا للغة الإنجليزية بوزارة الأوقاف، وربًا لأسرة تظللها سحابات السعادة، ولما انضمت مدارس الأوقاف إلى وزارة المعارف، سويت حالته مثل كثيرين من غير ذوى المؤهلات العليا، فتم تنزيله من الدرجة السادسة إلى الثامنة، وعُيّن موظفًا بوزارة المعارف، بعد أن كان مدرسًا مرموقًا بالأوقاف، فقرر بعد هذا القرار الذى رآه متعسفًا مقابلة وكيل الوزارة، ودخل حجرته فى تؤدة ووقار وخاطبه قائلًا: «يا سعادة الوكيل لقد اختار الله رجله»، تعجب الوكيل مما يسمع وطلب منه التوضيح فبادره «درويش» قائلًا: «أنا رسول الله إليك بكادر جديد»، بهذه العبارة انتهت رحلة الشيخ درويش فى الوظيفة، فتم فصله، ليخرج بعدها من العالم ويهيم على وجهه، ويجد ضالته فى النهاية فى أهل زقاق المدق الذين عاملوه بأعلى درجات التبجيل، وهو الرجل الذى يهتف بحب أهل البيت، بل اعتقد بعضهم فيه، فنسبوا إليه كرامات ومعجزات مزعومة لو كان يتمتع بقسط ولو صغير منها لنفع نفسه، لكنه ظل فى نظرهم وليًا من أولياء الله الصحالين، يأتيه الوحى باللغتين العربية والإنجليزية.

مشاهد عديدة اختلفت داخل القاهرة المحروسة، وكذلك داخل قرى مصر ونجوعها، لكن حتى اللحظة يظهر مجذوب داخل إحدى القرى أو تلك، تنشر عنه المواقع الإعلامية، وتهتم به مدفوعة بالترافيك، أو زيادة حجم المرور عليها، أحد هؤلاء المجاذيب الذى نشرت عنه المواقع «المجذوب» الذى ظهر بإحدى قرى الأقصر، ويعتقد أهل القرية وغيرهم فى كراماته وقدرته على حل مشاكلهم عبر اتصاله بالجن، بما فى ذلك تمكين طلاب الثانوية العامة من الحصول على أعلى المجاميع، واللافت أن بعض مشاهير القاهرة يهرولون إليه ويستعينون بكراماته على قضاء حوائجهم.

شىء عجيب أن يظن إنسان بإنسان آخر مثله قدرة على خرق قوانين الطبيعة ونواميسها، رغم أنه يضعف ويمرض ويعجز ويموت مثله، يعتبره ملاذًا وقبلة ويتوهم أنه يملك حل مشاكله، متذرعًا فى ذلك بموقع خاص يحتله هذا الشخص على خريطة العلاقة مع السماء، دون أن يقف لحظة ويراجع القرآن الكريم الذى يؤكد أن الناس جميعًا فقراء إلى الله، والله وحده هو الغنى الحميد، وأن النبى، صلى الله عليه وسلم، لم يأتِ بمثل الخوارق التى ينسبونها إلى مجاذيبهم أو من يرفعونهم إلى مرتبة الولاية، وأن ثلة الأولين من صحابة النبى لم تظهر بينهم نماذج لهؤلاء الذين يحسبونهم على الله، رغم أنهم فى عُرف الناس جميعًا الجيل الأفضل من المسلمين.

حقًا لله فى خلقه شئون.