رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أميرة ملش تكتب: شعب الله المحتار

منذ فترة وأنا أتخيل فكرة اختفاء تطبيقات التواصل الاجتماعى.. وكنت أسأل نفسى: ماذا سيفعل ملايين البشر الذين تحولت حياتهم لمجرد شاشة صغيرة إذا اختفت هذه المنصات؟ أين سيُخرجون طاقتهم هذه وماذا سيفعلون؟، خاصة هؤلاء الذين أصبحت ساحة الفيسبوك على سبيل المثال بالنسبة لهم تنفيسًا لطاقتهم وسعادتهم وحزنهم وغضبهم وكيدهم.. حياتهم كلها معروضة أمام الجميع.. نشاطاتهم من خروج وسفر إلى ترتيبات يومهم داخل المنزل.. طعامهم وملبسهم وضحكاتهم وبكاؤهم. 

هناك من يصور ويعرض كل طعام يأكله، سواء فى مطعم أو من صنع يديه داخل البيت للتباهى ربما فى الحالتين، إلى أعمالهم وإنجازاتهم.. كل شىء يعرض على منصات التواصل وكأنه تسجيل للحظات عمرهم، منهم من يستعرض ومنهم من يستمد طاقة وحيوية بمشاركة الآخرين له بعبارات الثناء والامتنان وكذلك المواساة، ومنهم من يعتقد أنه يطرد العين والحسد والأرواح الشريرة عندما يضع صورة قدمه وهى فى الجبس، أو صورة حادثة سيارته أو صورة لطفله والدماء تغطى وجهه.

منصات التواصل الاجتماعى، من فيسبوك وواتس آب وتويتر إلى إنستجرام وغيرها من التطبيقات، أصبحت جزءًا لا يتجزأ من حياتنا، قيدًا اختياريًا وبحكم الإدمان، قيدًا يصبح إجباريًا، رغم أنها عالم افتراضى يمتلئ أحيانًا بالأكاذيب وأحيانًا بالحقائق، ولا تغيب عنه التناقضات، وعندما تغيب عنه تشعر وكأنك قد انفصلت عن العالم، لا سيما أنها أيضًا كانت أداة مهمة من أدوات إنجاز الأعمال فى فترات انتشار فيروس كورونا الأولى، وأصبح ذلك حقيقة راسخة عندما أقدمت كل بلدان العالم تقريبًا على الإغلاق وفرض الحظر الشامل، أو الحظر الجزئى، وأنشئت العديد من جروبات الشغل عليها أو تم تفعيل ما سبق إنشاؤه، وكانت هى تقريبًا الوسيلة الوحيدة التى يتواصل الزملاء والقيادات فى العمل عن طريقها، ومن خلالها كانت تُعقد الاجتماعات، ثم تطور الأمر لعقد ورش العمل والدورات التدريبية، وبعد ذلك المؤتمرات، وكله «أون لاين».. إنها تحكم وتملك التكنولوجيا بجوانب حياتنا كلها، كما أنها كانت بالنسبة للجمهور عمومًا نافذة على الطريق ووسيلة تسلية وإضاعة للوقت فى فترات الحظر والجلوس بشكل دائم فى المنزل.. وعلى صعيد آخر أصبحت أيضًا وسيلة للدعاية والشهرة والانتشار للجميع، من يعملون فى الفن والمشاهير، إلى الحكام والملوك والسياسيين.

لا أحد ينكر فضل هذه المنصات التى أصبحت لغة عصرنا، برغم الدوشة والصخب الذى تسببه، وهو ما يجعل حتى الرؤساء والحكومات يستخدمونها فى توصيل الرسائل لشعوبهم حتى يضمنوا وصولها للجميع، بعد أن طغت ونافست الصحف ووسائل الإعلام.

وأصبحت أيضًا فى تطورها وسيلة لكسب المال، فهناك من أصبح عملهم هو السوشيال ميديا، والمكاسب أصبحت بالملايين، ولذلك هى سلاح ذو حدين، حيث إنها وسيلة لأعمال كثيرة غير مشروعة تدار من خلالها، لا سيما الإرهاب والجريمة المنظمة والنصب والدعارة. 

وبشكل عام أداء الناس على السوشيال ميديا كاشف لجزء كبير من شخصياتهم، صحيح أن هناك زيفًا قد تكتشفه حينما تقابل الشخص على أرض الواقع، ولكنها رغم ذلك تكشف السمات الشخصية، فهناك الشخص المتحفظ وهناك الصاخب، تجد الشخص الكتوم الذى لا يكشف عن حياته سوى القليل، وهناك المنفتح تمامًا الذى لا تعرف أسراره من غيره بل منه هو شخصيًا، لأنه يسجل كل شىء يمر فى يومه على الملأ.. هناك الشخص «التقيل»، وتجد أيضًا «الخفيف» الذى يستفزه أى شىء، ولا يفوته شىء إلا ويدلو بدلوه فيه، وهناك المُراقب فى صمت لا يتفاعل ولا يشارك ولا يقول رأيه، هو متفرج فقط، كل هؤلاء تقابلهم على هذه المنصات.

ولذلك لها مخاطر كثيرة، فهى أحيانًا تكون سببًا فى خراب البيوت، وهى وسيلة مضمونة وأداة لنشر الشائعات، ويجد المنتقم طريقًا سريعًا لتنفيذ انتقامه من خلال تشويه الشخص المستهدف، فإن سرعة الانتشار تعد إغواء لأصحاب القلوب المريضة، ومن خلالها يتم تشويه الأشخاص والدول والتاريخ. 

ولا ننكر أنها أيضًا وسيلة جيدة للمعرفة والوعى والإدراك، وتكوين الآراء، والتواصل بين الأخ وأخيه الذى يجلس على الطرف الآخر من الكرة الأرضية، وفيها ربما تعثر على صديقك القديم الذى فرّقت الأيام بينكما.. لا أحد ينكر ذلك، ولكن أن تصبح هذه المنصات هى حياتنا كلها، أعتقد أن ذلك غير صحى تمامًا، كلنا، لا أستثنى أحدًا، أصبحنا هذا الشخص الذى لا يمكنه الاستغناء عن السوشيال ميديا، ولكن بدرجات متفاوتة، هناك من يستخدم منصات التواصل بحرص وفى أضيق الحدود، ومن يقضى أوقات فراغه وغير فراغه كلها «مبحلقًا» أمام شاشة أصابت البعض فعلًا بالجنون، خاصة من يبحثون عن الشهرة والانتشار؛ فقد ساعدت على انتشار مفهوم «أُعرف ولو بالسوء». 

وفى الاختفاء المريب الذى حدث فى غفلة من العالم وأصاب المنصات الشهيرة، حيث تعطلت تطبيقات تابعة لشركة فيسبوك، منها «الفيسبوك» نفسه، ومنصة مشاركة الصور الشهيرة «إنستجرام»، وتطبيق المراسلة «واتس آب»، وتطبيق التغريدات الصغيرة «تويتر».. ارتبك العالم بأسره وشعر بالشلل، وأصبحنا شعب الله المحتار، الذى لم يفق من حيرة وباء فيروس كورونا حتى يغوص فى حيرة جديدة، وكأن من يتحكم بنا هو هذه الشاشة الصغيرة وليس نحن من يتحكم فيها، ولكن طبعًا الفكرة أعمق من ذلك بكثير، بدليل تعليق البيت الأبيض على عطل منصات التواصل الاجتماعى، قائلًا: «إن منصات التواصل أثبتت أن لديها قوة لا تستطيع السيطرة عليها». 

وفى الأخبار المتلاحقة علمنا أن هناك شركات كبرى فى الولايات المتحدة لم يستطع موظفوها الدخول لمقر عملهم لأن البوابات تفتح عن طريق الولوج لإحدى الصفحات التابعة للشركة على «الفيسبوك»، فقد أصبح العالم الآن والبشر جميعًا بكل ما حققته البشرية من تقدم ونجاح فى يد التكنولوجيا.. ولكن العطل هذا ربما وضعنا من جديد فى وضعنا القديم ولو لساعات، وجعل المستخدمين يلجأون إلى المواقع الصحفية والقنوات الإخبارية لمعرفة ما يجرى، بعد أن بات الجميع يتابع أخبار العالم عبر هذه المنصات، عادت بنا الساعات السبع إلى الأصل فجأة، وهناك من يقول إنه شعر بالراحة من إزعاج و«دوشة» السوشيال ميديا، وفى نفس الوقت لا يمكنه الاستغناء عنها، فعندما عادت عدنا.. لذلك هل حان وقت التخلص من هذا القيد؟، هل آن لنا أن نتحرر؟، ربما كانت هذه إشارة لذلك.. وقد ندرك وسيلة أخرى أو بدائل تحررنا من عبودية منصات وتطبيقات التواصل الاجتماعى.