رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

علقة ساخنة ثمن شائعة «اختفاء الوالى» و«عدل أفندينا»

يمثل عام ١٢٣٠ هجرية الذى وافق أول شهوره- المحرم الحرام- شهر ديسمبر من عام ١٨١٤ عامًا استثنائيًا فى تاريخ حقبة حكم الوالى محمد على «١٨٠٥- ١٨٤٨». فقد احتضن مجموعة من الشائعات العجيبة والغريبة التى ارتبط أغلبها بالباشا الحاكم.

كان الوالى محمد على قد سافر إلى الحجاز لتفقد أحوال قواته، بقيادة ولده طوسون باشا، التى كانت تخوض حربًا طاحنة ضد الوهابيين، وقد استغل الفرصة لأداء فريضة الحج. مضى شهر ذو الحجة واحتفل أهالى المحروسة بعيد الأضحى، وتوقعوا ظهور الوالى فى أقرب وقت بعد العودة من الأراضى الحجازية.

خلال شهر محرم وصلت إلى ميناء «القصير» سفينة تقل عدة أشخاص عائدين من الحجاز، وتردد بين الأهالى أنها تقل محمد على بعد أداء الفريضة وتفقد القوات، وتوقع الناس عودته إلى القاهرة خلال أيام معدودات، لكن الوقت مضى والوالى لم يعد، فبدأ بعضهم يلكلك فى الأمر ويتساءلون عن سر تأخر وصوله؟

بدأت شائعة «اختفاء الوالى» بطيئة يتداولها عدد محدود من الأشخاص ثم جدّت بعض الأحداث التى جعلتها تنتشر كالنار فى الهشيم بين كل المصريين.

فقد لاحظ الأهالى أن إبراهيم باشا وعددًا من أفراد أسرة محمد على خرجوا فى أحد الأيام لاستقباله كما تعودوا ثم عادوا دون الوالى. فى صباح اليوم التالى خرجوا من جديد وعادوا آخر النهار بمفردهم. تكرر هذا الأمر على مدار ثلاثة أيام دون أى خبر عن الوالى، عند ذلك كثر اللغط بين الناس وبدأت آلة التوقع الشعبى فى العمل، فمن قائل إن الوالى حضر مهزومًا أمام الوهابيين ولا يريد أن يرى الناس وجهه، ومن قائل إنه عاد مجروحًا، ومن قائل بل مات فى الحجاز فى واحدة من المعارك مع الوهابيين.

وبدأت الشائعة تتضخم أكثر وأكثر وسط الناس بعد التحركات المريبة لأفراد أسرة محمد على، فقد فوجئوا بتحرك نساء العائلة الحاكمة من بيوتهن بالمدينة إلى القلعة ومعهن أمتعتهن، ولاحظ الأهالى خلو الدور التى كانت يقطنّ فيها، كما تجمعت طائفة الجند من الأرناؤوط التى كانت تسكن فى نواحٍ متفرقة من القاهرة وسكنوا حى عابدين، والأخطر من ذلك ما حدث من جانب إبراهيم باشا ابن محمد على الذى لاحظ الأهالى أنه نقل مقر إقامته إلى القلعة وشحن فيها كل متاعه.

أمام هذه التحركات المريبة انتقلت الشائعة إلى أرض جديدة، إذ بدأ الأهالى يتناجون فى أن كبراء وعظماء الدولة اتفقوا على نقل حكم مصر إلى إبراهيم باشا ابن محمد على، وبل حددوا لذلك موعدًا هو يوم الخميس، وتهامس الناس ثم جهروا بأن موكبًا عظيمًا سيتصدره إبراهيم باشا فى هذا اليوم يشق به المدينة ليعلن من خلاله عن تربعه واليًا على بر مصر.

وما إن انتقلت الشائعة إلى هذه الأرض حتى بدأ الأهالى يتزاحمون على جوانب الطرقات بدءًا من فجر الخميس الموعود حتى يتمكنوا من مشاهدة موكب مبايعة الوالى الجديد، ومرت الساعات الطويلة وهم وقوف دون أن يظهر فى الأفق أى موكب، حتى أدركوا عند زوال الشمس أنهم يمكثون فى انتظار وهم لا أكثر.

كان محمد على قد قرر المكوث لعدة أشهر فى الحجاز حتى يعيد ترتيب الأوضاع المضطربة للقوات التى تواجه الوهابيين، وبدأت الأمور تتطور بشكل أكثر إيجابية ولاحت بعض الانتصارات فى الأفق. وعقب الانتهاء من المهمة التى بدأت فى ذى الحجة عاد الوالى إلى البلاد أول رجب.

أخذت شائعة «اختفاء الوالى» وتولية إبراهيم باشا مكانه تتوارى، بعد أن وصلت الأخبار أول رجب تؤكد أن الباشا وصل ميناء القصير، ووصل منه إلى الجيزة، ثم حضر إلى الأزبكية فأقام بها مدة يومين، وحضر رجال الدولة والأعيان والأكابر للسلام عليه.

خلال هذه الفترة ظهرت شائعة جديدة فى القاهرة وكذلك فى قرى مصر المختلفة- كما يقول الجبرتى- تقول إن الوالى تاب عن الظلم وعزم على إقامة العدل، وإنه نذر على نفسه إذا رجع منصورًا على الوهابيين واستولى على أرض الحجاز أفرج للناس عن حصصهم ورد الأرزاق الإحباسية إلى أهلها.

لم يكتف صانعو الشائعة بذلك بل أضافوا لها من خيالاتهم أن أهل الوجه القبلى نعموا بذلك عندما مر بهم الوالى أثناء عودته من الحجاز فرفع عنهم المظالم، ورد إليهم ما حبسه عنهم من أرزاق وما نهبه منهم من أراضٍ ودور وعقارات وغلال، فزاد اطمئنان الناس أكثر وأكثر إلى أن ما جرى على أهل قبلى سيجرى على أهل بحرى وكذلك على أهل القاهرة.

ضج الناس بالحديث عن هذا الأمر وبات كل محروم منهم يرى فى منامه الوالى وهو يرد عليه ما سلبه منه، ويسير فى الناس بالعدل والقسطاس المستقيم، وبعد أن كانوا يتهيبون عودته إلى القلعة أصبحوا يحلمون بيوم وصوله إليها. المضحك أيضًا أنه راجت فى ذلك الوقت رسائل وأوراق ومخاطبات تقول إن الوالى قرر رفع الظلم عمن دفع أموالًا بالفائظ وسيرد «الفائظ» إليه لأن أفندينا لا يرضى بالظلم، ففرح أكثر «المغفلين بذلك»، كما يحكى الجبرتى.

أمام هذه الأوراق تعامل الكثير من المظاليم مع المسألة على أنها باتت أمرًا واقعًا وأن الوالى سيرد المال الذى أخذه منهم ظلمًا، فما كان من بعضهم إلا أن اتفقوا على تنظيم موكب للذهاب إلى الوالى وشكره والدعاء له على مكرمة العدل التى غمرهم بها. تجمع عدد من المشايخ والأشراف والفلاحين ووراءهم حشد من المظاليم يحملون بيارق وأعلامًا، ويسيرون فرحين مستبشرين.

الحلم قادر على تحريك الشعوب فى لحظات، لكن الموكب لم يكن يسير بالحلم قدر ما كان يتحرك بالوهم المؤسس على شائعة لا تشهد عليها تجربة الوالى فى حكمهم والتى تواصلت حتى ذلك الوقت لمدة ٩ سنوات. 

كان الوالى يلعب فى أحد ميادين الرماية بالقبة حين وصلت إليه أصوات الحشود التى تبارك وتغنى وتستبشر بعدل الوالى، فخرج إليهم وسألهم عن سر مجيئهم، فأخبروه، فما كان منه إلا أن أمر الجند بضربهم وطردهم.

نالت الحشود الحالمة بالعدل علقة ظالمة علمتهم أن العدل لا يرتبط بمزاج أو تحوّل فى مزاج الوالى، بل أساسه إرادة المجموع حين تعلو على إرادة ساكن القلعة.