رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

اغتيال مدينة

تسللت برشاقة أحسد عليها من بين الجدران الأربعة التي اتخذتها رغمًا عني سكنًا وملاذًا من الكورونا بعد أن وصلت لمرحلة ما قبل الاختناق وقررت الهروب من مسكني بأحد أحياء القاهرة الجديدة الصحراوية إلي مدينتي الرائعة بورسعيد هروبًا من الصحراء الشديدة الحرارة إلي الهواء المنعش ملتقي البحرين الأبيض المتوسط والأحمر.

ورغم تحذير بعض الأصدقاء لي أن بورسعيد تكاد تكون موبوءة بالكورونا وأنها تحتل المركز الثاني في الجمهورية بعدد الإصابات بها، إلا أنني قررت المجازفة والسفر لمعشوقتي التي عشت بها أحلي سنوات عمري.

وسرحت بخيالي قليلًا فتذكرت ما عاناه أهالي تلك المدينة في الماضي القريب من ظلم وقهر لا يتحمله بشر، فبعد الحروب المتعاقبة ٥٦ و٦٧ و٧٣ والتدمير شبه الشامل الذي ألم بهم وما عانوه وقت التهجير، كافأهم السادات بالمنطقة الحرة التي لم تدم طويلاً بعد أن تعمد المسئولون إفشالها عقب محاوله اغتيال الرئيس مبارك المزعومة في بورسعيد.

أفاق أهالي المدينة علي كارثة الاستاد المدبرة إخوانيًا لينطفئ نورها لأكثر من ٩ سنوات، حرمان كامل من أن تشاهد فريقها الذي تعشقه يلعب علي أرضه بقرار ممعن في الظلم وفج ما زال ساريًا للأسف وللعجب ولا يجرؤ علي إلغائه أحد حتي كتابة هذه السطور وهو ما لم يحدث لأي فريق في العالم، ويستمر الظلم بمحاولة سرقه تاريخ المدينة وطمس هويتها بعدما تم تهريب تمثال ديليسيبس ليلاً خارج المدينة وإغلاق وهدم متاحفها.

ورغم ذلك تفاءلت خيرًا وتوقعت أن تكون الغمة قد زالت، شجعني علي ذلك ما قرأته عن التحسينات والتعديلات التي قام بها السادة المسئولون لتجميل المدينة.

بمجرد وصولي لمدخل المدينة تلاشي أي تفاؤل كنت أحلم به، تخطيط مروري عبثي متخبط للطرق دمر كل نظريات التخطيط التي درستها في كليه الهندسة، الشاطئ يمتلئ بعشوائيات خشبية أشبه بالمواخير تمتد إلي الطريق الساحلي لدمياط، أشجار حول ميدان المسلة تم طلاؤها بألوان تثير الغثيان علي مرأي ومسمع مبني المحافظة والغرفة التجارية، جبال من القمامة في الأحياء الشعبية وكأن النظافة ولدت فقط لتكون في الشوارع الثلاثة الشهيرة في حي الشرق.

تجولت قليلًا بدافع الفضول لمنطقة ممشي ديليسيبس الذي سرقوا تمثاله فكانت الطامة الكبري عندما شاهدت ما ينفذونه حاليًا تحت مسمي ساحه مصر.. تشويه متعمد لمدينتنا الباسلة التي كانت جميلة.

المدينة السياحية الساحلية والتي تتفرد بموقع عالمي نادر كمدخل لأهم ممر مائي "قناة السويس" يتم الآن تشويه مدخل القناة ويجري وضع مكان تمثال ديليسيبس المسروق تمثالًا للفلاحة المصرية، ولا أدري ما علاقة الفلاحة بمدينة ساحلية لا توجد بها أراض زراعية ولم يرتد أي من سكانها جلبابًا- مع احترامي الكامل لكل فلاحي مصر.

المدينه تم اختيارها بانفراد دونما باقي مدن الجمهورية لتكون أول مدينة حرة من السادات وأول مدينة رقمية وأول مدينة تشهد التأمين الصحي الشامل من السيسي- مع حفظ الألقاب- ومع ذلك يتعمد السادة المسئولون إفشال كل التجارب كما سبق أن حولوا مبني الأوبرا الفاخر إلي مسرح مدرسي ودار ثقافة متواضع.

قرأت للصديق اللواء أيمن جبر، مؤسس جمعية بورسعيد التاريخية تعليقًا صارخًا علي الفشل الإداري لخصه فيما يلي:

تخيلوا هذا التخطيط الأوروبي لبورسعيد منذ نشأتها، أي منذ 162 عامًا، بخطوط طولية وعرضية ترى قناة السويس والسفن المارة من أي تقاطع بالمدينة مهما بعدت المسافات، وأقدم وأعرق وأطول شارع رئيسي وهام ببورسعيد يمتد من مدخل قناة السويس ليمر بطول المدينة مخترقًا أحياءها حتى طريق الجميل ليصل إلى محافظة دمياط غربًا وهو شارع ٢٣ يوليو "كيتشنر سابقًا"، وهو بأهمية شارع صلاح سالم بالقاهرة.

ليأتي الجهل متجسدًا ويتم قطع الطريق الرئيسي للمدينة وغلق جزء هام منه وضمها لحديقة التاريخ بمنطقة ديليسيبس والعبث بخطوط التنظيم والتركيبة التاريخية للمنطقة التاريخية وهويتها الفريدة، وإعاقة حركة سير السيارات والنجدة والإنقاذ والطوارئ ومكافحة الحريق لباب 1 للميناء السياحي، لوضع تمثال كُلف به أحد المستثمرين وتسمية المنطقة ساحة مصر رغم أن المنطقة تسمى تاريخيًا ممشي ديليسبس ولوجود قاعدة تمثاله الأثري.

كارثة تضاف لمآسي بورسعيد الكثيرة، أعمال بلا دراسة أو فكر أو تقدير كلها أعمال للشو الإعلامي فقط.

أين احترام الأمانة التي كُلف بها مسئول المحافظة من السيد رئيس الجمهورية؟

أين احترام القسم والمحافظة على الأمانة؟ أين احترام قوانين التنظيم والتخطيط للمدينة؟ 

أين الاحترام؟