رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أفيقوا.. يرحمكم الله


أثرياء عرب يدخلون بسيارة دفع رباعى، عبر ميناء سفاجا، يتوغلون بها فى البيئة البرية المصرية، يصطادون منها أعداداً كبيرة من الغزال والكبش الأروى والأرانب وحيوان النمس، ببنادق آلية وخرطوش، بمساعدة عدد من البدو «المصريين»، مخالفين بذلك قوانين حماية الحياة البرية والبيئة المصرية.. ليس ذلك فحسب، بل إن هؤلاء الأثرياء أقاموا حفلات الشواء وتصويرها، والتباهى بتعليق رؤوس الغزلان فوق سيارتهم، مع أنهم لا يجرؤون على ممارسة هذه المخالفات فى بلادهم، من شدة العقوبات التى يمكن أن تطالهم.. فأين قوانينا نحن؟.

قد تبدو الحكاية بسيطة فى تفاصيلها، وأنها ليست بجديدة، بل سبقتها آلاف الحكايات المماثلة، والتى أفقدت الحياة البرية المصرية حتى الآن، 95% من غزلانها.. لكن الأعمق فى هذه الرواية، هو ذلك الاختراق الذى يطال البلاد، بسيطاً كان أو كبيراً، المهم أنه اختراق، وللأسف، يتم بمعاونة مواطنين مصريين، سعياً وراء المكاسب المادية التى يجنونها من وراء ذلك، حتى ولو كانت مكتسبات الوطن هى الثمن، يتساوى فى ذلك، إذا كان الاختراق لصيد حيوان وذبحه، أو قتل مصرى وتفجير منشآته.

لو طلبت من أى شخص فى بلد ما، مساعدتك فى اختراق خصوصيات بلاده، حتى ولو فى رحلة صيد، كالتى قام بها إخواننا الأثرياء، لرفض طلبك، لأنها بلاده التى لا يسمح باختراقها من غريب مثلك يريد أن يعبث بها، ولأنه يخشى العقاب الذى سيقع تحت طائلته، لو أنه ارتكب مثل هذه الجريمة، وسيف القانون لا يرحم.. فماذا دهانا؟.. وما الذى جعل حفنة من الدراهم أو الدولارات أغلى عندنا من الوطن؟، مع أن ثمن حفنة من تراب هذا الوطن، تكون الحياة نفسها عند المؤمنين به، حفاظاً على شرفها من التدنيس.. لأعود فأسأل: ما الذى تغير فى جينات المواطن، حتى هانت عليه بلاده، وأصبح المال أغلى عنده من ترابها؟.

بالتأكيد، ذلك نتاج طبيعى لسنوات عاش فيها المواطن وهو يرى بلاده تُباع فى سوق الخصخصة، على أيدى من كان يُفترض فيهم أنهم أُمناء على هذه البلاد، حافظين أصولها ومكتسباتها، رصيداً للأجيال المتتابعة من أبنائها.. شاهد المواطن تشريد العاملين وإطلاقهم إلى الشوارع تحت دعوى «المعاش المبكر»، وهم يرون كم نهب «السمسار» غالبية قيمة الصفقة فى جيبه الخاص، ولم يترك للبلد إلا الفتات.. والنتيجة، مئات الآلاف من العاطلين، خرجوا من العمل ببضعة آلاف من الجنيهات، سرعان ما بددتها تكاليف الحياة، وبات كل منهم خالى الوفاض إلا من كراهية لبلد سمح للأفاقين بأن يعبثوا بمقدراته، وإلا بيقين بأن «نفسى نفسى، وليذهب الجميع إلى الجحيم»!؟.

ذلك نتاج طبيعى، لسياسات خربت النفوس، وأماتت فيها معانى الولاء والانتماء، عندما همشت قطاعات من الوطن ودفعتها خارج السرب تغنى وحدها، دونما عناية أو رعاية، او احتضان لها، كجزء أصيل من هذا الوطن لا ينفصل عنه، لكن الكل انشغل بمكتسباته وترتيب أوراقه، فى وطن سمح لقلة فاسدة بأن تتصرف فيه وكأنه «عزبة» خاصة يتوارثها الأبناء عن الآباء، فهان الوطن على القاعدة بعدما هان على القمة، والسمكة برأسها، لا يبدأ الفساد إلا من هذه الرأس!. لذلك، فإننا فى مرحلة، تكمن خطورتها فى البحث عن رأس لهذا البلد، صاحب حضارة السبعة آلاف سنة، بلد المواطن الذى كان يوماً رائعاً، يوم حمل مشاعل العلم والثقافة والتحضر إلى المنطقة العربية من حوله، فكان رسول خير إليها.. نبحث الآن عن رأس تعيد لهذه الأمة عزها وكبرياءها، وتصبح هذه العزة وهذا الكبرياء عدوى حميدة، تنتقل من الرأس إلى الجسد.. والبحث يحتاج خبرة ووعياً، والوعى يحتاج من يوقظه، واليقظة تعانى الغفلة التى تاه فيها المواطن على أيدى من ضللوه سنوات طويلة، باسم الدين تارة، واستغلالاً لدواعى فقره وجهله ومرضه، تارة أخرى.. نحن نحتاج إذن، ثورة فكرية، تتضافر فيها المساجد مع الكنائس، يتوافق فيها الإعلام مع المثقفين وأصحاب الرشاد فى هذه البلاد، يؤذنون فى الناس، بأنه بعد الوطن لا شىء يُهم.. وإذا ضاع هذا الوطن، ضعنا جميعاً.. فأفيقوا قبل فوات الأوان.. يرحمكم الله!.