رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مقاصد وغايات وإشكاليات «الحوار الاستراتيجي» بين العراق وأمريكا

العراق وامريكا
العراق وامريكا

يدشن الحوار الاستراتيجي بين العراق والولايات المتحدة الأمريكية، والذي انطلقت أعماله في العاشر من يونيو الجاري، مرحلة جديدة من العلاقات بين (بغداد) و(واشنطن) على خلفية الرغبة الأمريكية، لإعادة تقييم استراتيجيتها في العراق في ظل الضغط المتزايد لقوات الحشد الشعبي على وجود القوات الأمريكية في العراق، بعد مقتل اللواء قاسم سليماني قائد قوات فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني في مطار بغداد، مطلع العام الحالي، ومعه أبو مهدي المهندس نائب زعيم الحشد الشعبي.

وكان مايك بومبيو وزير الخارجية الأمريكي، قد أعلن في مايو الماضي، عن عقد الحوار الاستراتيجي الأمريكي العراقي، في 10 يونيو 2020، ويهدف الحوار الذي سيكون عبارة عن سلسلة من الاجتماعات بين كبار المسؤولين الأمريكيين والعراقيين، إلى وضع كافة جوانب العلاقة الأمريكية العراقية على طاولة الحوار.

وكانت الولايات المتحدة قد مهدت الأجواء السياسية بين البلدين لمثل هذا الحوار من خلال اتخاذها عدة قرارات لصالح العراق، إذ جددت في 27 أبريل الماضي، إعفاء العراق من العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران، وسمحت له باستيراد الغاز والكهرباء من جارته لمدة 30 يوما، ثم عادت مرة أخرى لتمدد ذلك الإعفاء 4 أشهر إضافية خلال فترة الصيف، ما يعتبرها البعض إشارات جيدة من واشنطن لعقد علاقة قوية مع بغداد، وطي صفحات الماضي.

ولا شك أن توقيت الدعوة إلى هذا الحوار يثير الكثير من التساؤلات بشأن الغايات والمقاصد الأمريكية منه وكذلك الأهداف العراقية وموقف قواه السياسية والمجتمعية في ظل حكومة كاظمي الجديدة، ولذلك من الضروري إدراك ماهية مصالح كل من الولايات المتحدة والعراق، حيث يتطلع الطرفان إلى إعادة هيكلة علاقتهما، ورسم معالم علاقة استراتيجية مستدامة، تخدم مصالحهما الاستراتيجية وتساعد على إحلال السلام والاستقرار في المنطقة.

وقد أشارت صحيفة (المونيتور) الأمريكية إلى أن الحوار الاستراتيجي بين (بغداد) و(واشنطن) سيركز على خمسة من المحاور، الأول في المجال الأمني ومواجهة تنظيم داعش الإرهابي، إذ يحتاج التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة إلى تكثيف مشاركته مع العراق لمنع تكرار خطأ عام 2014 الذي ولد فيها التنظيم وانتشر، والثاني يرتبط بالأول وهو العلاقات العسكرية بين البلدين، فواشنطن ترغب في إعادة ترتيب وإصلاح المؤسسات الأمنية العراقية وتدريب القوات العسكرية، إذ تعتبر العلاقات العسكرية بين الولايات المتحدة والعراق راسخة وقوية.

أما المحور الثالث، يتعلق برؤية أمريكا لدور العراق في المنطقة، إذ ترى أمريكا في العراق مركزا أمنيا وشريكا في المنطقة، وأنه يجب على حكومة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي المساهمة بفعالية في حل الأزمات الإقليمية والدولية، مثل مكافحة الإرهاب وغسل الأموال، والجرائم المنظمة، وكذلك تأمين الحدود، في حين يتعلق المحور الرابع بمساعدة أمريكا للعراق اقتصاديا حتى يتمكن من تجاوز تداعيات وآثار جائحة كورونا التي أضرت باقتصاده.. ويدور المحور الأخير حول إيران وتهديداتها للمنطقة والعالم وإشكاليات العلاقة بين أمريكا وإيران من جهة وبين العراق وإيران من جهة ثانية.


- المقاصد والغايات الأمريكية

لا ريب أن للعراق أهمية استراتيجية كبيرة بالنسبة للولايات المتحدة من أجل ضمان الاستقرار في الخليج ومد الاقتصاد العالمي بالنفط والحد من خطر اندلاع حرب مع إيران، إذ تتعدد المصالح الاستراتيجية الأمريكية في العراق، أبرزها: التهديدات التي تطرحها إيران؛ وتهديد تنظيم "داعش" أو جماعة مماثلة أخرى؛ والعراق المنقسم وتداعياته على المنطقة؛ والمنافسة بين القوى العظمى ومن ثم يتعين على الولايات المتحدة مواصلة التركيز على هذه المصالح وإلا سيصبح العراق مبعث قلق كبير بالنسبة لها في المستقبل.

فإذا ما تمكنت الولايات المتحدة من مساعدة قادة العراق على بناء عراق مستقر وقوي، سيكون ذلك بمثابة إضافة مهمة لردع الطموحات الإيرانية والضغوط العسكرية التي تمارسها في منطقة الخليج.

ووفقا للخبراء والمتخصصين في العلاقات الدولية، ثمة غايات ومقاصد أمريكية من وراء هذا الحوار الاستراتيجي، وهي.. أولا: مواجهة وتقليص النفوذ الإيراني في العراق، إذ تعتقد إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن هذا النفوذ تعزز وتزايد بعد تشكيل حكومة عادل عبد المهدي رغم استقالتها والضغوط الشعبية والسياسية التي مورست ضدها.

ثانيا: البحث عن سلامة التواجد العسكري والدبلوماسي الأمريكي في العراق، والحفاظ على هذا التواجد وفق المقاربة الدبلوماسية المرتبطة بالسياقات الاقتصادية والأمنية.

ثالثا: أدركت (واشنطن) أن سياسة الضغوط القصوى والعقوبات الاقتصادية تجاه إيران لم تكن كافية وناجعة لإرضاخ إيران وتقليص نفوذها المتنامي وخاصة في العراق، كما أنها لا تريد استمرار استهداف المصالح الأمريكية بصواريخ فصائل الحشد الشعبي المقربة من إيران، يدفع بها إلى إجراء هذا الحوار لتأمين سلامة وجودها العسكري والدبلوماسي.

رابعا: لا تريد واشنطن انسحابا كاملا من العراق لأن مثل هذا الانسحاب يعد انتصار استراتيجيا لإيران، ولهذا تبحث عن خيارات البقاء وإعادة الانتشار مع ضمان تحييد النفوذ الإيراني. وهذا يكون عبر التفاهم والحوار والتفاوض مع الحكومة العراقية، التي سيتوقف الدعم الأمريكي لها وفقا لمعطيات ومخرجات هذا الحوار.

خامسا: إحلال توازن عراقي إيراني في العلاقات والقدرات لا ينعكس سلبا على واشنطن؛ إذ ما تريده (واشنطن) من العراق يرتكز على استغلال الواقع الاقتصادي المتردي، والانقسام السياسي والفوران الشعبي، وانبثاق تنظيم داعش من جديد، فالمعادلة في هذا الحوار ستكون وفق الرؤية الأمريكية قائمة على تحييد العراق من إيران مقابل تمكينه اقتصاديا وأمنيا وسياسيا، والعكس صحيح تماما.

سادسا: لا تريد الولايات المتحدة أي مواجهة مع إيران في العراق، ولهذا ستعمل واشنطن على إدامة زخم تلك الضغوطات على (طهران) عن طريق تحييد العراق وتمكينه، وجعله يتصرف بنحو غير داعم لإيران بما يعزز نجاح الضغوط القصوى تلك، ويجبر إيران على التعامل وفق هذه المعطيات الجديدة.

وأخيرا، للولايات المتحدة مصلحة استراتيجية في العراق من أجل مواجهة مساعي روسيا والصين الرامية إلى بسط نفوذهما الاقتصادي والسياسي في البلاد، فالحكومتين الروسية والصينية تبذلان جهودا حثيثة من أجل تعزيز نفوذهما في العراق على حساب الولايات المتحدة. ويمكن أن تفشل الاستثمارات المالية الأمريكية في العراق في حال حلت الشركات الصينية أو الروسية محل الأمريكية.

والمحصلة في ما يتعلق الأمر بالمصالح الأمريكية في العراق هي أن لدى أمريكا مصلحة كبيرة وإلزامية بوجود عراق مستقر ومزدهر ومتوازن سياسيا، خاصة بالنظر إلى سلبيات البديل. وإذا انسحبت الولايات المتحدة من العراق قبل تحقيق هذه الأهداف، ستكون مرغمة على التعامل مع كارثة عراقية قد تكبد الولايات المتحدة أثمانا أكثر بكثير مما هو ضروري.


- إشكاليات الداخل العراقي

يبدو موقف الداخل العراقي من هذا الحوار منقسما بين قواه السياسية، ينسحب هذا الانقسام بداية من تشكيلة ومكونات الوفد العراقي المخول له الحوار مع نظيره الأمريكي، ومرورا بالاختلاف حول أجندة وقضايا الحوار وانتهاء بالأهداف والمصالح والغايات والمقاصد العراقية من هذا الحوار الاستراتيجي مع واشنطن.

فبينما يؤيد العرب السنة والأكراد توصيف العلاقات بين (بغداد) و(واشنطن) بأنها علاقات صداقة واستراتيجية؛ فإن الأطراف الشيعية لا تشاطرهم هذه الرؤية، فبعض القوى الشيعية تؤيد إقامة علاقات جيدة مع الأمريكيين، لكن أطرافا أخرى تشترط انسحاب القوات الأمريكية أو جدولة وجودها لإقامة علاقات الصداقة، في حين ترفض الفصائل المسلحة المقربة من إيران إقامة أي نوع من العلاقات مع الأمريكيين، هذا التناقض في المواقف هو الذي يهيمن الآن على الجو السياسي العراقي عشية انطلاق الحوار.

ووفقا لأكاديميين عراقيين، فإن الحوار الاستراتيجي مهم جدا للحكومة العراقية الجديدة بقيادة الكاظمي والولايات المتحدة التي تسعى إلى الحوار من أجل تثبيت قناعات وتغيير قناعات وتوسعة الفهم المشترك تجاه خارطة عمل تبدأ بحوار تكتيكي بعدة مراحل وينتهي باتفاق لتفعيل اللجان المشتركة الستة في الاتفاقية الاستراتيجية المختلف في تفسيرها من الجانبين، أو استبدالها باتفاقية جديدة في ظل المعطيات والتحولات الجيوسياسية المستجدة.

ورغم حالة الضبابية المسيطرة على موقف القوى السياسية العراقية من الحوار الاستراتيجي مع أمريكا، إلا أن ثمة غايات ومقاصد عليا عراقية ترنو الحكومة العراقية إلى تحقيقها، ومن أبرزها: الرغبة العراقية في الحصول على التزام أمريكي بدعم الاستقرار السياسي في العراق، ومحاولة عدم ربط الصراع مع إيران باستقرار بغداد، مع إمكانية البحث عن اتفاقية جديدة بديلة عن اتفاقية الإطار الاستراتيجي غير الواضحة وغير العملية، تعكس المصالح المتبادلة بين الطرفين.

ورغبة العراق كذلك في تجنب أي عقوبات اقتصادية أمريكية تطاله نتيجة عدم تفهم رؤية ومصالح (واشنطن) لمقاربتها في التعامل مع إيران والجماعات المقربة منها، والسعي لتعزيز الدعم الاقتصادي لمواجهة تداعيات انخفاض أسعار النفط وانتشار وباء كورونا التي تواجهه الحكومة العراقية.. فضلا عن الرغبة العراقية في تحييد العراق عن حالة التشبيك في العلاقات الأمريكية الإيرانية وتأثيرات هذا التشابك والتعقيد على أمن واستقرار ووحدة العراق الآن ومستقبلا، مع تعبئة الداخل العراقي لدعم مقتضيات المرحلة الراهنة بكل تجاذباتها السياسية إقليميا ودوليا.