رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«فاطمة وماريكا وراشيل».. مصر التي في خاطري




فاطمة وماريكا وراشيل، حسن ومرقص وكوهين.. هى مصر التى فى خاطرى.. وخاطر العديد من المصريين الذين اشتاقوا إلى مصر التى لا تفرق ولا تضطهد ولا تقصى أحدا من أبنائها، بسبب دينه أو لونه أو اتجاهاته.. حيث مصر بهويتها الفرعونية وديانتها المتعددة وقامتها العالية.. واستيعابها للجميع.



كم فى مصر الآن من مضايقات ومنغصات وإحساس بالاضطهاد وشعور بالفرقة، ظلت مصر فاطمة وماريكا وراشيل حتى بدايات السبعينيات من القرن الماضى، الجميع يعيش فيها فى سلام وأمان، كل يصلى على طريقته، أو لا يصلى على الإطلاق، هى مسأله تخصه وحده فقط، لا أحد يملك أن يلوم الآخر أو يوجهه أو يعايره بسبب دينه أو لأنه لا يصلى أو لأنها لا ترتدى الحجاب، لا أحد يسأل الآخر «أنت مسيحى ولا مسلم ولا يهودى» كانت مصر وطنا للجميع.

ولكنها ذهبت بعيدًا وانتشر القبح، منذ منتصف السبعينات تقريبا فى عهد السادات إلى الآن، منذ خرج الإخوان والجماعات الإسلامية من السجون والكهوف وسيطروا على الجامعات والنقابات والمؤسسات الدينية، وكذلك الاقتصاد، وقد استطاعوا بناء إمبراطوريات اقتصادية فى عهد مبارك، وأحرقت مصر نيران الفتنة الطائفية التى لم تنطفئ حتى كتابة هذه السطور، أصبح أقباط مصر يعيشون فى خوف واضطهاد مستمر وتعميق الشعور بالأقلية، مطرودين من بيوتهم، مقتولين فى كنائسهم، مهددين فى الشوارع.

كان المصريون فيما مضى يأكلون فى طبق واحد، أما اليوم فقد سيطرت مشاعر الكراهية واضطهاد الغير، فى مدارس الصغار سمعت من صديقة لى أن ابنها رجع ذات يوم من المدرسة وهو يبكى بشدة، وعلمت منه أن صديقه المقرب منه رفض أن يأكل من طعامه فجأة بعد أن كانا يتبادلان السندويتشات كل يوم، وعندما سأله رد عليه أن أمه قالت له لا تأكل من طعام المسيحيين لأنهم سيدخلون النار، كما أن طعامهم غير نظيف، كانت الكلمات قاسية على طفل صغير عمره ثمانى سنوات، كما أن أمه غضبت وثارت ثم استسلمت للأمر الواقع وطالبت ابنها بقطع صلته بصديقه هذا تماما.

حكت لى القصة وأنا أتذكر كيف كنا نواظب على الحضور لمنزل صديقتى يوم عيد القيامة لنأكل من طعام أمها، الذى كنا نعشقه، وكيف كنا نواظب أنا وشقيقتى على أن نفطر يوما فى رمضان فى منزلهم، والآن يخشى الطفل أن يأكل من طعام زميله وصديقه فى المدرسة لأنه مسيحى.. كيف وصلنا إلى هذا الانحطاط؟!

وهو الانحطاط الذى جعل المسلمين أيضا فى مصر يقفون فى موقف الدفاع عن دينهم، بعد أن تشوه بفعل السفلة والأوغاد، ويتصرف بعضهم تجاه الأقباط وهم يشعرون بثقل البطحة التى على رءوسهم، ولا أجد الحل فى تجديد الخطاب الدينى وتلك الشعارات التى لا تغنى ولا تسمن من الفتنة، لأن التجربة أثبتت أن كل من يحاول أن يغير الخطاب ويحاول التجديد ويشرح للناس الإسلام الحقيقى، بعيدًا عن التشدد والتطرف يتهم بازدراء الأديان، وتتم محاربته من كل الجهات، ولكن الحل فى العودة إلى مصر «فاطمة وماريكا وراشيل»، الحل هو استدعاء هذه الحالة من الماضى، حالة الأنس والدفء، حالة الحضارة ومصر المدنية التى تستوعب كل البشر، علينا بمعرفة كيف كانت مصر فى هذه الحقبة حتى نصبح أفضل، معرفة الأسباب حتى نأخذ بها، لابد أن نشعر بالغيرة تجاه السابقين الذين عاشوا فى مناخ التسامح والرحمة والحرية، ونقلدهم لعلنا نسترجع روح مصر الحقيقية.

حتى أفلام السينما فى هذه الحقبة كانت تعكس روح التسامح والاستيعاب فى المجتمع المصرى، لذلك كان «فاطمة وماريكا وراشيل» و«حسن ومرقص وكوهين»، كان اليهود والمسيحيون والمسلمون جيرانا وزملاء وأصدقاء، ولا توجد مشاكل بينهم بسبب الدين، والكل متعاون ويقبل الآخر، وثقافة قبول الآخر كانت سائدة وهى التى اختفت تماما بعد ذلك، بل إن المجتمع المصرى أصابه تراجع الثقافة بشكل عام، ومعها اختفى الفن والموسيقى والكتابات الرائعة، اختفى الإبداع وانقرض المبدعون.

ولذلك أصبح من الممكن وبسهولة أن يحل محل الثقافة أفكار الإرهاب والتشدد والتطرف، والغريب أن المجتمع المتحضر فى السابق أصبح رجعيا الآن، وظهرت سلبيات وسط مناخ الرجعية المنتشر مثل التحرش الجنسى، الذى لم يكن له وجود أيام التحضر والتحرر، وهو ما يوضح أن المصريين كانت عقولهم متحررة ولديهم أخلاق، والآن أصبحت عقولهم منغلقة ورجعية وأصبحوا بلا أخلاق، فإنه على ما يبدو أن التحرر والتحضر مرتبط بالأخلاق والنخوة والشهامة وليس العكس، عندما أشاهد الأفلام المصرية القديمة أو أفلام الأبيض والأسود، كما نطلق عليها، أشعر بحسرة وحزن على حال مصر التى أعيش فيها الآن، الفرق شاسع بين القبح والجمال، تبهرنى أخلاقيات الناس وسلوكهم وطباعهم، يبهرنى التعايش بين المصريين فى محبة وسلام، وأتمنى لو كنت جئت إلى الدنيا فى هذا الزمان، وليس فى زماننا هذا.
فاطمة وماريكا وراشيل هى مصر التى نريدها ونتطلع إليها.